[استدلال يوسف عليه السلام على الله]
ومن دلائل من كان بعده من رسل الله وأنبيائه، الذين جعلهم من ذرية إبراهيم عليهم السلام وأبنائه. قول يوسف صلى الله عليه، لصاحبي السجن اللذين كانا معه فيه، وهو يدلهما على ما تفرد الله به من الربوبية، وما هو له لا لغيره سبحانه من الوحدانية: ? يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلاَّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ? [يوسف39-40]. يقول صلى الله عليه أأربابٌ الربوبيةُ بينهم، ليست بخالصة لواحد منهم ؟! خير في الربوبية أمراً، وأعلى في الفضيلة قدرا، أم تكون الربوبية لواحد خاصة، ولرب لا لربين اثنين خالصة ؟! فمن يمتنع من الأصحاء، سمع أولم يسمع من النصحاء، أن الربوبية لرب واحد أفضل فضلا، وفي رب واحد أكمل منها في اثنين وبين ربين وأعلى ؟! لأنها لو كانت لاثنين كان كل واحد من الربين منقوصا، وكل إله من الإلهين بالنقص مخصوصا، فإن كانوا وهم أكثر عددا، كان كل واحد منهم أنقص أبداً.(1/46)
فكيف يكون المنقوص إلهاً أو يثبت ربا ؟! وأين الأعلى من الأشياء كلها قدرا ممن له أضداد وأكفاء ؟! وربنا فمعلوم في الألباب غير مجهول، وثابت لا يدفع في العقول، لأن كل اثنين فبينهما تباين لا يخفى في الأحوال، يَبِينُ به أحدهما على صاحبه في الفضل والكمال، وأن أفضلهما أبدا أحوالاً، وأكملهما في الفضل كمالا، أولاهما بالأثرة والتقدمة، وأحقهما بالطاعة والتكرمة. وإذا كان ذلك، موجودا في العقل كذلك، لم تصح الربوبية أبداً إلا لرب واحد، وثبتت الحجة في التوحيد وإثبات الإلهية لله على كل ملحد، وانقطع بين الموحِّد والملحد في ذلك كله التشاغب، وذهب - بصدق الحجة لله في ذلك كله - التكاذب، وَنَفِيَ الحق من الباطل وتبرأ، فلم يَعمَ عنه إلا من لا يبصر ولا يرى، فلا يجيب إلى الحقائق لله داعيا، ولا يسمع بالدعاء إلى الله مناديا، كما قال سبحانه: ? وإن تدعهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ? [الأعراف :198].(1/47)
[استدلال موسى وهارون عليهما السلام على الله]
ومن مقاول رسل الله بعد يوسف صلى الله عليه وعليهم، واحتجاجهم لله على عباده بدلائله فيهم، قول موسى وهارون، إذ أرسلهما الله إلى فرعون: ? إنا رسول رب العالمين ? [الشعراء:16]. فقال فرعون: ? وما رب العالمين ? [الشعراء :23]. قال موسى: ? رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ? [الشعراء: 24]. يقول صلى الله عليه إن كنتم ممن يوقن في غيب بيقين، أو يستدل فيما غاب عنه بدليل مبين، استدلال ذوي العقول والألباب، على ما غاب عن أبصارهم بتوار واحتجاب . وإنما يُدرَك ما غاب من الأمور بالفكر واليقين، ويدرك ما حضر منها بالحوآس من العين أو غير العين، وذلك فإنما هو درك البهائم الخرس، التي لا تدرك شيئا إلا بحآسة من الحوآس الخمس، ولا توقن أبداً بغائب غاب عنها، ولا تدرك إلا ما كان شاهدا قريبا منها، فأما أهل الألباب والعقول، فيستدلون موقنين على الجاعل بالمجعول، وعلى الغائب المتواري الخفي، بالحاضر الظاهر الجلي.(1/48)
وكل ما عظم من الدلائل وازداد عظما، ازداد به موقنوه يقينا وعلماً، فلما كانت السماوات والأرضون، أعظم ما يرون من الدلائل ويبصرون، دلهم بهما على ربهما، وأخبرهم أنهم إن لم يوقنوه بهما، لم يوقنوه بغيرهما، لما فيهما من دلائل اليقين بصنعه وتدبيره، ? فقال فرعون لمن حوله ألا تسمعون ? [الشعراء: 25]. فسألوا موسى كما سأله الملعون، وارتابوا في قوله كما ارتاب فرعون، فقال موسى صلى الله عليه لهم: ? ربكم ورب آبائكم الأولين ? [الشعراء: 26]. فأخبرهم أن كلهم وكل من كان قبلهم عبد لله مربوب، إذ كلهم وكل من كان مثلهم مصرف مقهور مغلوب، يسقم ويفنى ويموت، ويحل به السقم والموت، فقال لهم فرعون: ? إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ? [الشعراء :27]. فقال لهم موسى صلى الله عليه إذ عاودوا يسألون: ? رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ? [الشعراء :28]. فقررهم صلى الله عليه من ذلك بما لا ينكرون، إن كانوا يوقنون بغائب أو يعقلون، ودلَّهم على الله سبحانه بدليل مبين، فيه لمن أيقن أدل الدلائل وأيقن اليقين.
وكذلك قال الله سبحانه للقوم الذين لا يعلمون، إذ سألوا من رؤيته ما لا يمكن ولا يكون، إذ يقول سبحانه: ? وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون ? [البقرة:118]. فأخبر سبحانه أن بيانه إنما هو للذين يعقلون، ويوقنون من الغيب بما لا يرون ولا يبصرون، فأما أشباه البهائم الذين لا يعلمون، إلا ما يرون ويبصرون، فإن الله سبحانه انتفى من البيان لهم، وتبرأ من ذلك إليهم، وذلك فمما يدل على علم الله وحكمته، ولطيف خبره بأحوال بريته.(1/49)
ومن ذلك قوله سبحانه لكفرة قريش والعرب، ولمن كان معهم من كل ذي لسان معرب: ? ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاَّ الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب، قالت رسلهم أفي شك فاطر السموات والأرض ? [إبراهيم 9-10]. الذي يستدل عليه منهما بكل شيء فيهما من كل أو بعض، فقالت رسلهم في ذلك لهم، ما قالت الرسل لأممهم قبلهم، واحتجوا لله عليهم، بمثل حجج نوح وإبراهيم فيهم، ودلُّوهم على الله بدلائله، مِن فطره صنعه وفعائله، وتعجَّبوا من شكهم !! وما هم فيه من شركهم !! مع ما يرون من الدلائل في السماء والأرض ويبصرون، مما يوقن بأقله فيما غاب عنهم الموقنون.(1/50)