هذا الغُلُوّ البادي في الأقوال والتصرفات دفع مسلَّماً اللحجي - خصم الشيعة الحسينية لا خصم الأشراف القاسميين - إلى الزعم بأن المهدي الحسين بن القاسم ووالده المنصور كانا يريان أشياء تقضي بمخالفتهما لمذاهب أسلافهما، وأنهما ربما يسترجحان أشياءَ من مذهب الفاطميين(1).
__________
(1) ليس فيما بين أيدينا من تاريخ مسلّم تصريحٌ بذلك، بل هناك اتهامٌ لبعض المتظاهرين بالتعصب لمهدية الحسين بن القاسم بأنهم كانوا جواسيس للإسماعيلية لفتنة عوامّ الزيدية. لكن الزُحيف، محمد بن علي بن يونس (916 /10-1511) ينقل ذلك عن مسلّم (في اللواحق الندية للحدائق الوردية، أو مآثر الأبرار في تفصيل مجملات جواهر الأخبار) 2/714، ويأخذ ذلك عنه الشرفي (ت1055/1645 في اللآلي المضية. فربما ذكر مسلّم ذلك في القسم الثالث الضائع من تاريخه. وقارن بأئمة اليمن للسيد محمد زبارة 1/85. ويذكر يحيى بن الحسين في أنباء الزمن 1/144 أن الحسين بن القاسم أغار على صنعاء مع أخيه عام (402 /1011:‍ (فهدم دوراً لأهل صنعاء، واصطفى أموالهم، وأخذ أخماسها موافقةً للعبيدية).(1/31)


على أن المعروف أن الإسماعيلية لا يقولون بمهديًّ منتظَر، وإن كانوا يرفعون القائم من أئمتهم إلى مراتب من الخشوع والتقدير والطاعة لا تعرفُها الزيديةُ على الإطلاق. ويكون علينا هنا أن لا ننسى أن الحسين بن القاسم جاء على رأس القرن الخامس، ورؤوس القرون يظهر عليها وفيها المجدِّدون والمهديّون، وأصحاب الأحلام الكبرى في تاريخنا كله، والمذاهب الإسلامية تمر بفترات تخلِّف وركود فكري، يعمد فيها المهووسون إلى دعاوى غريبة وهرطقات عجيبة. والشبهُ قويٌّ بين الحاكم بأمر الله (386-411/996- 20-1021) الخليفة الفاطمي المعاصر بمصر، والحسين بن القاسم باليمن. فكلاهما وصل للسلطة وهو فتىً صغير. وكلاهما وُوْجِهَ بمعارضةٍ قويةٍ من الطامعين بالسلطة. وكلاهما أحسَّ بالغربة في محيطه فغاص في عالمٍ خاصٍّ به بدت آثارُهُ في تصرفاته. وكلاهما كان قاسياً، متقلّب المزاج، بالغ العنف مع الخصوم والأصدقاء. لكن النظرية الإسماعيلية في الإمامة والأئمة تملكُ من إمكانيات المُضيّ والغُلُوّ ما لا يتوافر حتى في حدّه الأدنى في الإمامة عند الزيدية.
ومن هنا وصل الحاكم إلى ادّعاء الأُلوهية - أو قيل ذلك عنه(1)
__________
(1) الدراسات حول الحاكم بأمر الله كثيرة، وهي تختلف اختلافا شاسعا في تفسير تصرفاته خلال فترة حكمه، كما تختلف في تفسير وتأويل حَدَث اختفائه أو مقتله. وأحدث تلك الدراسات وآخرها اثنتان: إحداهما: ليوسف فان J. van Ess بعنوان: الأحلام النشورية ومغامرة التألُّه: الخليفة الحاكم (386 – 411 هـ) (هايدلبرغ / بالألمانية /1977). وهو يوافق فيها مذهب القائلين بادّعاء الحاكم للألوهية لعلتين: الإمكانيات الكامنة لذلك في النظرية الإسماعيلية، وانتظارات الناس والقرانات الفلكية على رؤوس القرون.
والثانية: لهاينز هالم H. Halm بعنوان: أمين الله في الأرض: مراسيم الخليفة الحاكم (مجلة Der Islam 63، 1986، / 11 – 72) وهو يذهب إلى استبعاد ذلك عنه، ويحاول بالرجوع إلى المصادر الأصلية المعاصرة أو شبه المعاصرة ل‍ه، إثبات وجود سوابق كثيرة لدى الفاطميين لمثل تصرفاته، وإن تكن كثافة تلك التصرفات تشي بإمكان وجود تشككٍ وخوفٍ مَرَضيَّين لديه تجاه محيطه للظروف التي أحاطت بسنيّ وصوله الأولى إلى السلطة في صغره، بالإضافة إلى نزعة متأصلة لديه للزهد والتطهر والسياحة، وإحساسه الحاد بأنه ((خليفة الله)) والمؤتَمَنُ على الناس، والرادع لهم عن التردي في مهاوي الغفلة والفساد.(1/32)


- بينما لم يتجاوز الحسين بن القاسم تلميحات وخواطر كان لا بُدَّ أن يستعيرها من الفِرَق الشيعية الغالية لانعدامها في الفرقة الزيدية، ولتشدُّد أهل اليمن في الارتباط بالهادي ومذهبه. فبينما يشكّل كُل حاكمٍ أو إمامٍ جديدٍ عند الإسماعيلية عهداً جديداً تماماً يستطيع فيه أن يفعل ما يشاء، ويذر ما يشاء، فإن زيدية اليمن ما كانوا وقتها يسمحون بالخروج على مذهب الهادي في الأوصل والفروع. والمعروف فيما استقر عليه الأمر منذ القرن الثالث الهجري (أن المهدي لا يموت قبل أن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا) لكنه عند بعض محدّثي أهل السنة والجماعة أمارةٌ من أمارات يوم القيامة، بينما هو عند الشيعة الإثني عشرية الإمام الثاني عشر، الذي لم يمت، بل غاب غيبةً كبرى، ويعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. لذلك كان من المنطقي - ما دام من المرجّح أن الحسين ادّعا المهدية - أن يذهبَ اتباعُهُ إلى أنه لم يمُت وإنما غاب امتحاناً وابتلاءً. فإذا كانت في أفكاره بعض وجوه الشبه بالفكر الإسماعلي - كما تَنَبه لذلك مسلَّم اللحجي - فإن فكرة الغيبة ليست إسماعيلية (1)
__________
(1) يورد هاينز هالم في دراسته السالفة الذكر (ص 72) نصاً دُرزياً يقول إن الحاكم غاب ولم يُقتل: (اعلموا أن غيبتي عنكم غيبةُ امتحان). بل إن هناك نصاً إسماعيليا (وليس درزياً لأن الحاكم يُسمى فيه: وليّ الله – ولا تُدَّعا أُلوهيته -)، انتشر في القاهرة بعد اختفائه يقول إنه غاب بسبب معاصي الناس، وفقد الأعوان على الحق، (قارن بدراسة هالم /11 حاشية رقم 1 و/70). ولذا ربما كان هناك تيارٌ جانبي ضمن إسماعيلية مطالع القرن الخامس يقول بالغيبة والرجعة. والطريف التشابُهُ الواضح في تعليل الغيبة بين النصين السالفين، ونصّ مفرِّح بن أحمد في السيرة /72: (ولما كان من غيبة إمام العصر وصاحب الدهر المهدي لدين الله الحسين بن القاسم.. وكان امتحاناً لأولياء الله، ونقمةً على أعداء الله.. بقي الناس في ظلمةٍ وفِتَن).(1/33)


بل هي من تُراث الشيعة الإثني عشرية.
بدأ الإنكارُ على المهدي الحسين بن القاسم في حياته من جانب بعض علماء اليمن، والأشراف من أتباع مذهب الهادي(1) ثم نعرف حملة مسلَّم اللحجي المفكر والمؤرخ المطرَّفي على اعتقادات العيانيين، وشيعتهم الحسينية. وقد أورد المتوكل على الله أحمد بن سليمان مآخذ عدة على الحسين في "حقائق المعرفة" و"الحكمة الدرية" كما سبق، عقّب عليها بالقول: (وبأقلّ قليلٍ مما تكلّم به تسقط إمامتُهُ اللهم إلا أن يكون الكلامُ مكذوباً عليه).
ويذكر حُميد المُحَلّي (ت652/1254) في "الحدائق الوردية" أن الإمام أحمد بن سليمان ألّف رسالةَ في ذَمِّ غُلُوّ الحسينية عنوانها: "الرسالة الزاجرة لذوي النُهى، عن الغُلُوّ في أئمة الهدى"(2). والمُلاحَظُ من العنوان أنه يحملُ فيها على الحسينية وليس على المهدي الذي يعتبره من (أئمة الهدى) ويُثني على كتبه(3).
السيد حميدان والحسينية
__________
(1) يذكر الشرفي في اللآلي المضية 2/145 – 146، نقلا عن مسلَّم اللحجي أن الداعي الباطني حسين بن عامر بن طاهر الحميري كان بين أوائل من أنكروا على الحسين، فقال من قصيدة:
يا مدعي الوحي إن الوحي قد خُتما
بالمصطفى فأَمِطْ عن نفسك الوهما
وليس للحسين بن عامر ذكرٌ بين دعاة الفاطميين باليمن، قارن: الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن لحسين بن فيض الله الهمداني /59 – 60.
(2) الحدائق الوردية 2/64.
(3) هل اعتباره من أئمة الهدى يناقض كل لأقواله فيه. يمكن القول أنه يقصد بهم عموم الأئمة. ولا يمكن البت فيما يبدو متناقضا من كلام الإمام إلا بدراسة الرسالة ومعرفة تاريخ تأليفها أكانت سابقة على الحقائق والحكمة الدرية أم لاحقة.(1/34)


أما السيد حُميدان (من النصف الأول من القرن السابع) فقد خاض مهمةً أصعب عندما ألّف رسالةً بعنوان: "كتاب بيان الإشكال فيما حُكي عن المهدي من الأقول" وهو يعمدُ إلى كتب المهدي الحسين فيقتبس منها ما يدلُّ على حُسْن إسلامه، وغزارة علمه وهديه، ذاهباً إلى أن الأقوال الغالية المنسوبة إليه، إما أنها ممكنة التأويل، أو أنها من تشويه خصومه ووضعهم. وقد أشار المهدي نفسه إلى إمكان تشويه أقواله ومقاصده في حياته فكيف بالأمر بعد مماته؟! لكن السيد حميدان لا يرى أفضلية المهدي على السَلف من أئمة آل البيت.
واضحٌ أن هذا الكتيب كان نتيجةً من نتائج الصراع مع الفرقة الحسينية وعليها. ويندرجُ في محاولات تبرئة الحسين بن القاسم من دعوى المهدية، والادعاءات الأخرى التي شاعت عنه. فغرضُها حصرُ النزاع مع الفرقة الحسينية، بالأتباع أنفسهم، وتبرئة آل القاسم وزعيمهم الحسين بن القاسم من تُهمة الخروج على تُراث آل البيت باليمن. وللمؤلف حميدان بن يحيى همٌّ شخصيٌّ أيضا. فهو نفسه من آل القاسم. يقول صاحب "تاريخ بني الوزير": (حُميدان بن يحيى القاسمي، من ولد جعفر بن القاسم العياني. ممن عاصر الإمام المهدي أحمد بن الحسين (ت656 /1258) وناصره. وكان علامة في الكلام، مطّلعاً على أقوال أهله ومتبحّراً في ذلك متقناً غاية الإتقان. وكتابُهُ هو المجموع المشتمل على أقوال الناس وحكاية مذاهبهم) (1).
__________
(1) تاريخ بني الوزير (ص116)، وتمام نسبه عند يحيى بن الحسين في طبقات الزيدية ص 123: حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن بن إبراهيم بن سليمان بن القاسم بن علي... إلخ.(1/35)

7 / 58
ع
En
A+
A-