ويُشتموا فترى الألوانَ مشرقةً ... لا عفو ذُلٍّ ولكن(1) عفو أَحلامِ
(واحتج عليه في ادّعائه أن كلامه أبلغُ من كلام الله بآيات من كتاب الله، منها: أن الله تعالى قد تحدّى الجن والإنس بأن يأتوا بسورة من مثله فما فعلوا ولا قدروا، وذلك قول الله تعالى: ?لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ? [الحشر:21]، وأمثال ذلك. وأورد في ذم الافتخار قوله تعالى: ?فلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)? [النجم]. وبما أشبه ذلك.
(ونحن ننفي عنه هذا الكلام ونقول: هو مكذوبٌ عليه ولا يَصحُّ عنه، وهذا ادّعاء باطلٌ وفسادُهُ ظاهر (2)
__________
(1) في الحقائق: بل. والصواب ما أثبت.
(2) أنا في شك من هذه العبارة أنها من كلام المتوكل على الله أحمد بن سليمان!! بل لا أستبعد أنها أضيفت إلى كتابه بعد وفاته بفعل فاعل، لأربعة أسباب:
الأول: أنه قال في الحكمة الدرية: (وهذا الكتاب صحيح، وهو في أيدي أصحابه إلى اليوم، وهو أيضا عندنا في كتب بني الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المبتدأ الجواب، ولا يمكن نفيه عنه لتواتر الأخبار، ولقرب العهد، ولإجماع المخالف والموالف أنه منه)). فهو هنا ينفي إمكان نفي الكلام عنه، ويدعي التواتر والإجماع على نسبته إليه، مع أنه أمر لا يخفى على مثله، لقرب العهد كما يقول.
الثاني: أنه لو كانت هذه الفقرة من كلام المتوكل على الله، لأثبتها في الحكمة الدرية، لئلا يلبس على الناس.
الثالث: أن كلامه متسق بدون هذه العبارة، مما يؤكد أنها مدسوسة في كلامه.
الرابع: أن من سبقه قد ذكروا ما أشار إليه. والله أعلم بالصواب، فإنني أشك في كثير من النقول والتهم المذهبية، لأن الداعي إلى كثير منها متوفر، سواء في حق الحسينية أو المطرفية، أو غيرهم. ولا ينبئك مثل خبير!!!(1/26)


وإنما أردنا أن نبين القول فيه، لأن قوما من بني إخوته وشيعته قد صاروا يرون قوله هذا دينا، وقد صاروا فرقةً يناظرون عليه ويحيون ويموتون عليه، وينسبون من لم يقل به إلى الكفر. ويقولون: لم يُقتل ولم يَمُت، ولا يموتُ حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. ويقولون: إنه يعلم الغيب، وذلك لجهلهم وقلة معرفتهم لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ومن جهلهم أنهم قالوا: هو يحكم بحكم آل داود! فإذا سألهم سائل عن حكم آل داود كيف كان؟ قالوا: يعرفُ المُحِقَّ من المبطل من الخصمين قبل أن يتكلما! ولم يعلموا أن داود عليه السلام سئل عن نفسه فلم يعلم، ذلك قول الله تعالى: ...إلى قوله: ?وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (س). (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)? [ص:21-25].
(واعلم أن قولهم هذا غلط بيِّن من وجوه:(1/27)


(منها: أن الله تعالى يقول: ?قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)? [النمل]، وقوله: إنه يعلم الغيب تكذيب لكتاب الله. وقال تعالى: ?وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) [لقمان]، وقوله: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء? [البقرة:255].
(وقولهم: إن كلامه أبلغ من كلام الله، وأقوى حججا، تكذيبٌ أيضا لكتاب الله، لأن الله تعالى يقول: ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) ([الإسراء]، وقال تعالى: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)? [الأنعام].
(وأما قولهم: إنه أفضل من الملائكة والأنبياء عليهم السلام، فهذا ضرب من الجنون، وغلط من ادعاء الربوبية، وذلك أنه قد أتى في كتاب الله أن الملائكة موكلون بأمر الله، قال عز من قائل: ?وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)? [النازعات]، وقال: ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ? [السجدة:11]، وقال تعالى: ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)? [ق].(1/28)


(فإن كان ممن يموت فَمَلَكُ الموت موكَّلٌ عليه، والوكيل أفضل من الموكَّل عليه.
(وإن كان لا يذوق الموت فهو رب، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
(وأيضا فإن الملائكة صلوات الله عليهم هم خزنة الجنة وخزنة النار، والخازن يكون أفضل ممن يخزن عليه، فبطل قولهم: هو فوق الملكوتية.
(وأما قولهم: هو أفضل من رسول الله، ولم يعلموا أنه ما استحق الإمامة إلا بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرابة من رسول الله صلى الله وسلم. ولو كان أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعله في مكان رسول الله، ولأنزل عليه الكتاب والمعجزات، وهذا القول خروجٌ عن الحدود المضروبة، والله تعالى يقول: ?فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)? [النجم:32]، وقال تعالى: ?النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ? [الأحزاب:6]، وقال تعالى: ?لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)? [آل عمران].(1/29)


(وأما قولهم: هو أفضل من رسول الله، لأنه يملك الأرض كلها ولم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الأرض، فليس ملك الأرض يوجب فضلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ملك آل داود ما لا يملكه أحد من بعدهم ولا ملكه أحد من قبل، قال الله تعالى: ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)? [ص]. فصح أنه لا يُعطى أحدٌ بعده مُلكا في الدنيا واقتداراً، مثل ما أعطى سليمان عليه السلام. ومع ذلك فإن سليمان لم يدِّع أنه أفضل الأنبياء، لما أُعطي من ملك الدنيا ما لم يُعطوا مع مُلك الآخرة.
(وقد عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك الدنيا فكره ذلك وقال:"الدنيا دار من لا دار ل‍ه، ومال من لا مال ل‍ه، ويجمعها من لا عقل ل‍ه" فلو كان الحسين بن القاسم قد ملك الدنيا بأسرها ثم افتخر بملكها، وادّعا ما ادّعا، لكان ذلك قبيحا منه، فكيف ولم يكن من ذلك شيء؟!
(وأيضا فإن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يكون مستعظما لسيئاته، مستصغرا لحسناته، قال الله تعالى: ?وَا لَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)? [المعارج]. وبأقل قليل مما تكلم به تسقط إمامته، اللهم إلا أن يكون الكلام مكذوبا عليه)(1).
* * *
__________
(1) حقائق المعرفة /247، (مخطوط) للإمام أحمد بن سليمان.(1/30)

6 / 58
ع
En
A+
A-