وإن قالوا: بل خرج منه جسم لطيف، فليس يخرج من العين والنسمة إلا ما هو ألطف، وأقل منها وأضعف، وما كان ألطف من اللطيف، وأقل وأضعف من القليل الضعيف، لم يذهب في الأهوية إلا ضلالا، وكان كل ما ينسب إليه محالا، وقد علم كل عاقل أنصف عقله، ولم يتبع جنونه وجهله، أن ذلك لو صح لمدعيه، لما ترك على وجه الأرض أحدا يعاديه، وقد رأينا بالمشاهدة أعداءه أحسن حالا، وأكثر منه ولدا ومالا، فلو كان صادقا فيما يدعي من المحال، وينتحل عند الرعاع والجهال، لما ترك أعداءه يوما واحدا، ولما ترك لهم مالا وولدا، ولا أبقى في إلحاح النظر جهدا، وقد أجمعوا على صحة هذا السبب غاية الإجماع، ولكن لا يلتفت إلى إجماع الرعاع، لأن همج الناس لا يفرقون بين العقول والأوهام، فمن هذا الوجه لا يتكل على إجماع الطغام، ولو أجمعوا على شيء يمكن في المعقول، لما صدقناهم لما هم عليه من الفضول، فكيف تصديقهم في المستحيل، وما لا يمكن أبدا في العقول؟!
وسألت عن العقل في ذاته؟
وهو عرض ركبه الله في قلوب المتعبدين، وجعله حجة على المكلفين، والعقل والنفس ضدان، وهما في القلوب متعلقان، والجسم والروح لهما موضعان، وأحقهما بحمل النفس والعقل الروح، لأن العقل والنفس روحانيان، وهما في ذاتهما عرضان، والنفس تنقسم على أقسام وأضداد:
فمنها: داع إلى الخير والرشاد.
ومنها: ما يدعو إلى الغي والفساد.
والعقل قسم واحد يقين، وأمين ناصح شاهد مبين.
فأما النفس:
فمنها: الذكر والنسيان، وهما في القلب ضدان متنافيان.
وقسم ثالث: هو الشواهد للذات.
والرابع: ضد الشهوة وهو الكراهية للمكروهات.
والخامس: الأمان، وهو السكون والإطمئنان.
والسادس: ضده وهو الخوف.
والسابع من الأقسام: ما يجول في النفوس من الظنون والأوهام.
والثامن: وهو الوهم وهو اليقين، والحق الواضح المبين.
والتاسع: هو السرور والفرح.
والعاشر: ضده وهو الغم والترح.
والحادي عشر: الرجاء والطمع.
والثاني عشر: وهو اليأس.(1/261)


والثالث عشر: الرحمة.
والرابع عشر: ضدها وهو القسوة.
وكثير من هذه الأقسام يوجد بالمشاهدة في أنفس الأنعام، ولكنها تنقسم في قلوب أهل المعقول على أقسام، وتخرج على وجوه يخشى فيها الإمعان في الكلام، ولا فاقة لأحد إليها من الأنام، والنفس فهي تقلب القلوب أطوارا، وتغيره حالا بعد حال مرارا، فمرة تدعوه إلى الصالحات، ومرة تدعوه إلى المهلكات، ومرة تدعوه إلى العقل، ومرة تدعوه إلى الجنون والجهل، وأصل الجنون وفرعه خلو هذه الأقسام، بغير عقل ولا زمام، وإذا كان العقل مع هذه الأسباب سترها، وعلا نوره عليها فغمرها، وإذا خلت الأقسام بأنفسها من العقل، جالت في أنواع القبائح والجهل، فنستمتع الله بما وهب لنا من العقول، والحمد لله الواحد الجليل.
ثم نقول من بعد: إن الروح محل لهذه الأقسام، وإنه جسم لا يدرى ما هو من الأجسام، لأن الروح ينتقل من الموضع إلى غيره، وذلك بلطف الله وتدبيره، ولا يجوز الانتقال إلا على الأجسام، وما ركب الله من الأجرام.
وسألت عن كلام إبليس اللعين، ومخاطبته لسيدنا آدم وغيره من النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين؟
وقد حكى الله عز وجل في القرآن ما قد سمعت من قسمه لآدم وزوجه، أنه لهما من الناصحين، ولا يكون القسم والحلف إلا بالكلام، ولا يجوز أن يسمى القسم خاطر وَهْمٍ من الأوهام، وإذا أقسم لهما فقد سمعاه، وروي في ذلك أنهما صدقاه، وحسبا، أن عدو الله لا يجتري على اليمين كاذبا، لما داخلهما من اليقين بالله ذي الجلال، والتوقير لذكر الله عن الكذب والمحال، حتى ظنا صلوات الله عليهما أن في قلب عدو الله من الخشية كالذي في قلوبهما، وإنما اغترا في حال حداثتهما وقلة تدبيرهما وتجربتهما، فلما حكمهما طول الزمان، وكثرة التجارب للأفنان، حذرا من الغرر والجهل، واستقاما على الدين والعقل، حتى قبضهما الله إلى رحمته، وتوفاهما على طاعته.(1/262)


وأما سائر الناس، وما يعارضهم من الوسواس، فأكثر ذلك من النفوس وجولانها، وتقلب القلوب وخطرانها، وقد روي أن إبليس اللعين ربما قارب الإنسان في حال فكره، وربما قَوَّى طبع النفس بما هو من شكله، كما يقوى الحر من النار بزيادة مثله، وقيل أيضا: إنه كان يخاطب الناس في أول الزمان ويدعوهم إلى العصيان، ولسنا نبالي أدعاهم أم لم يدعهم، وسواء عندنا أكلمهم أم لم يكلمهم، لأن لك لا يوجب في دين الله فسادا، ولا يضر من أولياء الله أحدا.
وسألت عن رجل أطاع الله وقتا ثم عصاه، ثم تاب إلى الله ومات على تقواه، هل يثاب على الطاعة التي كفر بعدها، أم تبطل ولا يثاب عليها؟
والجواب: أنه لا يثاب على شيء قد أبطله، وأفسده عبثا وعطله، ولكن الله قد غفر له، وتاب عليه عند الرجعة وقَبِلَه.
وسألت عن رجل عسر عليه الاكتساب، وأراد أن يتفقه في الدين، ويُقبِل على طلب الحق واليقين، وأعرض عن المنازل والزوجات، فلم يَبْن لنفسه منزلا، ولم يتخذ من الزوجات أهلا، أيأثم في ترك شيء من ذلك أم لا؟
والجواب في ذلك: أنه غير مأثوم ولا مأزور، ولكنه في حكم الله مرضي مأجور، وقد أعرض سيدنا المسيح عن ذلك واشتغل بغيره، فلم ينقص الترك لذلك من أجره. وأما ما روي عن سيدنا خاتم النبيين، صلى الله عليه وآله الطاهرين، من قوله: ((لا حصر بعد يحيى، ولا سياحة بعد عيسى))، فلما أراد بذلك التخفيف عن المخلوقين، ولم يرد بذلك حظر السياحة في أرض الله على السائحين.
وسألت عن العقول هل هي مستوية، أم بينها اختلاف؟
والجواب: أن اختلاف عقول الناس كاختلاف قواهم، فمن كانت قوته تبلغ أداء الفرائض وجبت عليه، ومن لم يطق فلا يكلفه الله ما يعدم إليه، ولا يصل بقوته إليه، وإنما العقول على وجوه معروفة، وأحوال بينة موصوفة.
منها: عقول سادتنا الملائكة المقربين.(1/263)


ومنها: عقول الأنبياء المرسلين، وعقول الأوصياء المتسخلفين، وعقول الأئمة الطاهرين، وبعد ذلك عقول المكلفين، فأفضل العقول عقول الملائكة الأكرمين، ثم عقول الأنبياء، أكمل من عقول الأوصياء، ثم الأوصياء أكمل من الأئمة في العقول، وأفضل في الاعتقاد والقول، ثم للسابقين من الفضيلة على المقتصدين، كمثل فضل الأنبياء على الوصيين، وللأئمة المقتصدين، من الفضل ما لا يكون لفضلاء المؤمنين، وأفضل الناس كلهم فضلا، وأكملهم دينا وعقلا، محمد خاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين.
وسألت فقلت: هل يثاب مَن عُمِّر في طاعة الله وقتا يسيرا، كثواب مَن عُمِّر في الطاعة زمانا طويلا، وكيف يكون كمثله، وتكليفه أطول كمثل نوح ومحمد صلى الله عليهما؟
والجواب في ذلك: أن أعلمهما بالله أفضلهما وأخشاهما، وأعظمهما خشية لله أتقاهما، وأتقاهما لله أهداهما، وأهداهما إلى دين الله إحداهما (1)، وأحد الرجلين بأجزل الثواب أولاهما.
واعلم أن عقول حجج الله على قدر كلفتهم (2)، وعلى قدر منازلهم عند الله ومحنتهم. وأما سائر المكلفين، فقد اختلف القول فيهم من المتكلمين، فقال قوم: إن الله ساوى بين خلقه في العقول، كما ساوى بينهم في التعبد، فاستعمل بعضهم عقله، وترك بعضهم النظر وأهمله، وزهد في التمييز وعطَّله، فأصدأ بمخالفة الله عقله، حتى صار لكثرة اللعب كمن لا يعقل، فأما من كان مغمورا بالخُبْل، مطبوعا على البلاهة والجهل، وضعف التمييز في الطبيعة والجهل، فليس يكلف الله ذلك، ولا يكون أبدا في المكابرة كذلك، لأنه لم يتعمد في ذلك تجاهلا، ولم يزل عن جميع الأمور جاهلا، ولم يكن مع الناس فيهما عاقلا، ولم يزل عن وجوه التعبد غافلا.
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) في المخطوط: كلفهم. ولعل الصواب ما أثبت.(1/264)


وزعم قوم آخرون: أن الله خالف بين عقول العباد، ودل جميعهم على الرشاد، فذو العقل المنقوص يلحق بضعف علقه إذا سلم من الجنون، كمثل ما يلحق كامل العقل من الدين، كما أن أضعف الناس يلحق من الصلوات، وأداء جميع المفروضات، كالذي يلحق أقواهم جسدا، وأشدهم بدنا، وهذا قولهم واختلافهم.
والذي أقول أنا واعتقد، والله الموفق والمسدد: إن من عمل على قدر عقله، وسلم من مكابرته وجهله، فهو عند الله من الناجين، ولديه إن شاء الله من المقبولين، ومن كان ضعيف العقل، مغمورا بطباع الحيرة والجهل، فهو بمنزلة البهائم والأطفال، في رحمة الله الواحد المفضال. وأما من غمر عقله باللعب والإهمال، وشبه نفسه بالبهائم في الإغفال، فهو وليس - ولا كرامة - من المعذورين، ولكنه عند الله من الكافرين، ولو استعمل عقله حق الاستعمال، لنال به من الخير كل المنال، ولكنه أقبل على العبث والمحال، حتى ارتطم ووقع في الضلال، وصار من أجهل الجهال، فهذا ما اعتقد وأقول، وإليه أذهب وأميل.
وأما الاختلاف والتبغيض إلى العباد، وسوء الأدب والميل إلى الفساد، والمكابرة واللجاج في الإلداد، فليس ذلك من أخلاق الصالحين، ولا هو من أفعال المسلمين، ولا يجوز مقاطعة المؤمنين، إلا بكبيرة من كبائر المفسدين، إذا أقام عليها، ولم ينتقل بالتوبة عنها، وقد رأيت كثيرا من المؤمنين، وأولياء الله المتقين، يضلون عن السبب من أسباب الدين، فينبغي للمؤمن أن لا يقاطعهم حتى يبين لهم، ويرفق بهم ولا يعجل عليهم، فإن الله سبحانه لا يعذب وليه على السهو والنسيان، كما يعذب على العمد والبيان.(1/265)

53 / 58
ع
En
A+
A-