المسلمين، وعداوة أعداء الله المجرمين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين وسلم.
- - -
كتاب
التوفيق والتسديد والآداب
كتاب التوفيق والتسديد والآداب
فأول ما سألت عنه التوفيق والتسديد وما حقيقتهما ومعناهما؟
والجواب في ذلك: أن التوفيق والتسديد، هما العون من الله والتأييد، فمن أعانه الله على طاعته، ووفقه لمرضاته، فقد وفقه لهداه، وسدده لسبيل تقواه، ولن يوفق الله أبدا من عصاه، وأعرض عن الله واتبع هواه، ثم يقال لمن زعم أن الله وفق العصاة قبل توبتهم، وسددهم في حال معصيتهم: أخبرنا أيها الجاهل عن التوفيق والتسديد، والعون من الله والتأييد، أهما مكافأة للعبد على طاعته، أم عون للفاسق على معصيته، أم تأديب من الله على غفلته، لما علم من إنابته ورجعته.
فإن قال: إنهما زيادة من الله للموقنين، ومكافأة لعباده المؤمنين، فقد أصاب في قوله... إلى قوله: وأصل التوفيق مأخوذ من السداد، وأصله الحق والصدق والرشاد... إلى قوله: وأعلم يا أخي - زادك الله علما، ونجانا وإياك من العمى - أن التوفيق هو التسديد، وهو الهدى من الله والتأييد، وهو زيادة من الله للمهتدين، وإرشاد منه لعباده الراشدين، فمن قَبِلَ عن الله الهدى، وشكره على نعمه الابتداء، زاده هدى إلى هداه، وبصَّره وآتاه تقواه، وأول توفيق الله وتسديده، وعونه للمؤمنين وتأييده، أن يبصرهم معالم دينهم، ويزيدهم في علمهم ويقينهم، ويعينهم بلطفه على جهاد أنفسهم، وأول خذلان الله لأعدائه تركه لهم على ضلالهم، واستدراجه إياهم بإغفالهم، فإذا خذلهم بالترك والإغفال، لم يصيبوا رشدا في حال من الأحوال، ولم يزالوا مرتطمين في الضلال... إلى آخره.
وسألت عن الشجاعة والجبن، أهما من الله تركيب في الأجسام، أم هما اكتساب من العباد؟
واعلم يا أخي أن الشجاعة على وجهين، وكذلك الجبن أيضا على معينين:
فمن ذلك شجاعة المتعبدين.
وشجاعة من لا يعقل من المخلوقين.(1/256)


فأما شجاعة البهائم، فإلهام وتركيب من رب العالمين.
وأما شجاعة المكلفين، وإقدامهم على ما يكرهون، فهي صبر منهم لدفع ما يخافون، واجتلاب منافع ما يريدون، ولا يتم ذلك لهم إلا بما ركَّب الله من الاستطاعة فيهم، ولأولياء الله من الصبر والاجتهاد، ما ليس لجهلة العباد، وذلك ليقينهم بالمعاد، وزهدهم في الإقامة والإخلاد.
وأما جبن البهائم وذلها، فهو محنة من الله لها، ونعمة منه لغيرها، ليثيبها على ذلك عند حشرها، وبعثها يوم القيامة ونشرها.
وأما جبن الآدميين، فلا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون لعلة مرض أذلهم، ومنعهم من الجهاد وأملهم، وأضعفهم عن ذلك وأكلَّهم.
وإما أن يكون ذلك زهدا منهم في الجهاد، وميلا إلى الراحة والرقاد، فإن كان ذلك لعلة مانعة، ومحنة عن الجهاد قاطعة، فلا يكلف الله سبحانه خلقه ما لا يستطيعون، ولا يسألهم ما لا يجدون، لأنه عز وجل أرأف وأرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم، وإن كان ذلك منهم ميلا إلى الفساد، وكراهية منهم لحر الجلاد، وصيانة بالأهل والأولاد، فسيفارقون صاغرين، ويرتحلون عنه مأزورين.
وسألت عن قول الله سبحانه: ? ????????????? ?????????? ???????? ?????????????? ? [الزخرف:32]؟
والجواب في ذلك: أن الله سبحانه سخر بعضهم لبعض تسخيرا، وجعل في ذلك حكمة وتدبيرا، ولو لا تسخيره لما عاش ضعيفهم مع قويهم، ولما انتفع فقيرهم بغنيهم.
وسألت عن الرياح تهب على إنسان فتسقطه في بئر، أو تهدم عليه جداراً فيموت، أذلك من الله، أم هو من الرياح؟
والجواب في ذلك: أنه لا يخلو، إما أن يكون تعرَّض لذلك، وأهلك نفسه. وإما أن يكون ذلك بغير كسبه، فإن تعرَّض للهلكة وألقى بنفسه إليها، فقد أثم في نفسه واعتدى عليها، وإن كان لم يتعرض لشيء من ذلك حتى هجم عليه، وورد بغير اكتسابه إليه، فذلك من الله سبحانه صنع وتدبير، وتهلكة منه لعبده وتدمير، فأما الجدار والرياح فلا ينسب الفعل إليهما، ولا يقال به في سبب من الأسباب عليهما.(1/257)


وسألت عن الغيث والبَرَد إذا تلف منهما تالف ومات بأسبابهما؟
والجواب في ذلك: أن الله أتلفه بالبَرَد والمطر وأماته، وأذهب عمره بذلك وحياته، فأما الغيث والبرد فلا يعيان ولا يعقلان، ولا يقتلان أحدا ولا ينشران، ولكن أمات بهما وأحيا، ودبّر بهما وهيَّأ، وجعل فيهما خيرا وشرا، وركب فيهما نفعا كامنا وضرا.
وسألت عن الرجل أمأثوم إذا سافر إلى بلد السدم؟
والجواب: أنه إن تعمد بذلك تلف نفسه فقد أثم، وإنما السدم طبيعة حارة من جنس النار، تقوى بشلكها، وتبطل بخلاف أمثالها، وإنما ركب الله سبحانه أجسام العباد على أربع طبائع مختلفة، متضادة غير مؤتلفة، وهي: الحر والبرد، واليبس والرطوبة، وكل طبيعة من هذه الأربع تقوى بشكلها، وتبطل بضدها، فكل حار من الأغذية يقوِّى الحرارة التي في الجسد وينميها، وكل بارد من الأغذية يبطل الحرارة وينفيها، ويقمعها أبدا ويطفيها. وكذلك روي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله.
وأما ما روي عنه من المقال، بأن بلد الوباء يقرب في الآجال، فهذا فاسد من الرواية والمقال، ولكن يمكن أن يكون نهى عن بلد الوباء لتعب الحر وأعراضه، ونكد عواقب السدم وأمراضه. فأما الأجل، فلا يقربه إلا الله عز وجل، أو ظلم العباد، وتفريقهم بين الأرواح والأجساد، لأن الله سبحانه طبع الروح والجسم على الاجتماع، والإفتراق عند التغير والإنقطاع، فإذا تغير الجسد خرج الروح بعد قراره وثباته، ومات الجسم وهلك بعد حياته، رحمة منه سبحانه للمخلوقين، وتنبيها بالضعف للغافلين، لينظروا إلى ضعف أنفسهم وأجسادهم، فيزهدوا في الدنيا باجتهادهم، ويقبلوا على طاعة ربهم، ويستعدوا للموت قبل حلوله بهم، حتى تخرج أنفسهم على أيقن اليقين، ويقفوا بين يدي الله على الحق المبين، ويسلموا بذلك من صفقة الحظ الغبين.
وسألت عن المقتول هل بقي من عمره شيء، أم قد اخترم القاتل أجله قبل وقته؟(1/258)


واعلم أن الله عز وجل خلق الحياة خلقا، وأوجدها إيجادا، فإن شاء قبض الأرواح، وإن شاء تركها. فأما المقتول فقد علم بقتله، ولم يجعل له أجلا بعينه، ولو حتم له أجلا موقوتا لبقي إلى وقته، ولما قدر أحد من المخلوقين على قتله.
وسألت عن رجل كان يسير في طريق فلدغته حية أو غيرها من الهوام؟ ومن الجراد وأكلها للزرع، أذلك من الله بإلهام، أم هو من أنفس الهوام؟
والجواب في ذلك: أن الله عز وجل ألهم جميع الدواب والأنعام اجتلاب منافعها، ودفع مهالكها، فإن كانت هذه العجم قصدت الملدوغ قصدا، وتعمدت هلاكه عمدا، فذلك بإلهام الله ومشيئته، وإن كان هو الذي تعرض بها فذلك بإرادته، لأنه قصد شرا كامنا بمهجته، لأن الله عز وجل قد ألهمها نفي ما يهجم عليها، وإهلاك ما قصد إليها.
وسألت عن البهائم هل معها عقول تعقل بها، وتميز ما يضرها وينفعها؟
والجواب في ذلك: أن العقول لا تنسب إلا إلى المتعبدين، ومن كان من المهتدين والضالين، ولكن الله ألهم أنفس البهائم إلهاما، وجعل ذلك لحياتهن قواما.
وسألت عن الأمراض، وما ينال الآدميين من وَصَب الأعراض؟
وذلك من الله لا شريك له، وهو الذي صنع ذلك وجعله، وركبه في الأجسام ونزله. وأما ما يستعمله الناس من الطبائع فليس يقدرون على طبعه، وإنما يقدرون على تناوله وجمعه، وليس للعباد فعل في هذه السموم غير الحركات، ولا ينسب قتل السم إلى الجمادات، وإنما هو محنة هلكة من الهلكات، وإنما فعل العباد تفريق وجمع، ورفع ووضع، وصلة وقطع، وطاعة ومعصية، وسكون وحركة، وضمير ونية. فأما الطبائع فهي من فعل الله وتدبيره، وحكمته وتقديره، ولا ينسب الفعل إليها ولا إلى جامعها، ولا يكون ذلك إلا من فعل صانعها.
وسألت عن المرض الذي يسمى الجنون، أهو من الجن، أم هو فعل من الله في المجنون؟(1/259)


واعلم يا أخي - أكرمك الله - أن الجنون هو ما أجن العقل وستره، وحال بينه وبين المعقولات وغمره، ولا يكون ذلك إلا بملابسة العلل ودخولها، وجولانها في القلوب وحلولها، والجان فلا يتهيأ له الدخول، ولا يمكنه الملابسة والحلول.
وسألت عن قول الله مولانا الواحد الجليل، وما ذكر في أهل الربا من القول: ? ??????????? ?????????????? ????????????? ??? ???????????? ??????? ????? ????????? ???????? ?????????????? ??????????????? ???? ?????????? ? [البقرة:275]؟
وهذا مثل ضربه الله لمن يعمل بالربا بالموسوس وخبله، إذ لم ينتفع ولم يزدجر عن الحرام بما ركب الله من عقله، والمس فهو الجنون، وإنما خاطبهم الله بما يعرفون، لأنهم إذا رأوا مجنونا سموه مخبوطا منقوصا، وكان بذلك الاسم عندهم مخصوصا.
وسألت - أكرمك الله - عن العين، وما يعتقد العوام من إصابتها للبهائم للحسان، والأشجار المثمرة، وغير ذلك؟
واعلم يا أخي أن ذلك لا يصح عند من يعقل، ولا يقول بذلك من الناس إلا من يجهل، ولكنه ربما وافق أمر الله نظرهم، فيتوهمون أن ذلك منهم، وليس يخلو نظرهم من أن يكون انتقل منه جسم إلى الشيء المعجب فلابسه، ووصل إليه ولامسه. وأما أن يكون لم يصل شيء منه إليه، ولم يقع مما توهموا عليه.
فإن قالوا: إنه خرج من أنفسهم وأعيانهم جسم أمرضه، ووصل إليه وعارضه، فهذا الجسم لا يخلو من أن يكون لطيفا، أو يكون عند خروجه كثيفا، فإن زعموا أنه خرج من أعيانهم وأنفسهم جسم كثيف أوجعه، وغلب الشيء المعجب وصرعه، أو أيبس الشجر وقطعه، فهذا محال لأن العين والنسمة ضعيفان، وهما مع ضعفهما لطيفان، وما كان من الأشياء كلها ضعيفا، وكان مع ضعفه لطيفا، فيستحيل أن يخرج منه جسم كثيف.(1/260)

52 / 58
ع
En
A+
A-