فأما إدراك العباد فهو: علمهم، وعلم العباد متعلق بهم، وهو ما ركب الله من عقولهم، وجمع بينه وبين أجسامهم، وكذلك علم حواسهم وأوهامهم. وأما علم الله فهو: ذاته، وكذلك قدرته وحياته، لأن علمه لو كان سواه لكان مجموعا إليه، ولكان له جامع فطره عليه. ألا ترى أن من قال: إنه عالم، ثم قال: لا علم له، فقد نقض بأبين البيان قوله، وإنما أنكروا ذلك بجهلهم، وضعف تمييزهم وعقولهم، وقد علم الله سبحانه ذلك منهم، فلم يكلهم إلى أنفسهم، بل أمرهم باتباع آل نبيهم، وسبيل هدايتهم ونجاتهم.
وسألت يا أخي - وفقنا الله وإياك لطاعته، وأعاننا على اتباع مرضاته - عن الإنسان المخاطب المأمور، المتعبد في جميع الأمور، المكافأ على البر والفجور، أهو العقل أم الجوارح؟
والجواب في ذلك: أن العقل حجة تعبد الله الخلق بعد كمالها، وأثاب وعاقب البرية بفعالها، فأما العقل فلا يقع عليه الثواب والعقاب، وإنما هو شاهد على الخطأ والصواب، وإنما يقع الثواب والعقاب على الجسم والروح إذا اجتمعا، وعلى الروح وحده وإن لم يكونا معا، فأما الجسم الموات، فلا يعقل إذا فارقته الحياة.
وسألت - تولى الله حفظك، ووفر في الثواب الجزيل حظك - عن الرؤيا التي يراها المؤمنون والكافرون، وكيف تلتقي الأرواح، وهل تكون الرؤيا بشيء ليس من الله سبحانه، وهل يصح من الرؤيا ما هو من الشيطان؟(1/251)


فذكر في الجواب: أن الرؤيا من الله وحده، لأن الرؤيا إنما تكون عند خروج الأنفس مع الأرواح، وخروج الأنفس من القلوب، فلا يتم إلا لعلام الغيوب، والروح فهو: خلق لطيف، حجب الله فهمه، ولا سبيل إلى علم ما أخفى الله علمه، وإلا فأين من يفهم كيفية خروجه؟! ورجوعه في البدن وولوجه؟!! وكيف خرجت الأنفس والعقول معه من الأجساد؟! وأين مخرجه من أجساد العباد؟! وكيف لا يعقل الروح نفسه عند هجوم المنام؟! وكيف يرجى ويترك في جميع الأنام؟! حتى لا يعقل في أكثر الليالي والأيام، وما جعل الله سبحانه من حياة الأرواح وكمالها، وتوصيل جوارحها واعتدالها، فلا يتم إلا بلطف مدبرها وجاعلها، ومفتطرها وفاعلها، لما فيها من صنعه وتدبيره، وبيان حكمته وتصويره.
وأما الرؤيا التي يراها المخلوقون،ويفهمها المؤمنون والكافرون، فهي إخبار من الله، وكرامة للصالحين، وحجة على الظلمة الفاسقين، لأن إعلامه لهم بالحوادث قبل كونها، دليل على علم المخبِر بها، ولأولياء الله وأصفيائه، من عجائب الرؤيا ما ليس لأعدائه، وذلك خاصة منه لهم، وإجابة لدعواتهم عند سؤالهم، وأما غير ذلك من رؤيا السرور، ومكاره ما يرى النائم من الأمور، فمنه ما يحتمل التأويل، ومنه ما هو كائن على ما يراه النائم في المنام، وذلك بإعلام الله ذي الجلال والإكرام، ولا يصح الخبر بالشيء في حال عدم، إلا من عالم أحاط به قبل كونه، لأنه لو كان جاهلا به، لما علمه قبل حدوثه، وفي هذا دلالة على الله رب العالمين، وحكمة تفضل بها على المخلوقين.
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين من قوله: ((إن الحلم من الشيطان)). فإنما أراد بذلك: أن الله سبحانه أطلع العباد في المنام على أفعال الشياطين ليجتنبوها، وليتعوذوا بالله منها ولا يقربوها، لأنها لا تضر من أخلص التوبة إليه من أفعالهم، واستعاذ به من سوء أعمالهم.
- - -(1/252)


كتاب
السبيلين (العقل والنفس)
كتاب السبيلين العقل والنفس
الحمد لله الذي فرق بين الأضداد... إلى قوله: وللحق والباطل طريقان، وسبيلان مفترقان، وهما: العقل والنفس، فالعقل محل كل صدق وصيانة، ومعدن كل حق وأمانة، والنفس محل كل باطل وخيانة، ومعدن كل دناءة ومجانة... إلى قوله: فاجعلوها - رحمكم الله - تابعة للعقل، ولا تجعلوها سلما إلى الجهل، وحكِّمُوا العقول عليها، ولا تتكلوا أبدا إليها، ومن أراد أن يظفر بأعظم الكرامة، ويحل في محل السلامة، وينجو من الحسرة والندامة، فليحكِّم عقله على هواه، ويؤثر آخرته على دنياه، فالعقل إمام الملائكة المقربين، والأنبياء المهتدين، والأئمة الراشدين، وأتباعهم المقتدين، وهو الدليل على رب العالمين، وحجته على المخلوقين... إلى آخر كلامه عليه السلام.
- - -
كتاب الولاء والبراء
كتاب الولاء والبراء
مما سأل عنه أبو عبد الله محمد بن نقصان
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على خام النبيين، وعلى آله الطاهرين.
سألت يا أخي - تولى الله حفظك - عما أوجب الله على عباده من الولاية لأوليائه، والعداوة والمباينة لأعدائه؟
والجواب في ذلك: أن الله عز وجل بيَّن للعباد ما يأتون وما يذرون، وافترض عليهم قبول ما به يُؤمرون، فكان مما أمرهم به، وأوجب عليهم من أصول دينه، عداوة أعدائه الأشرار، ومحبة أحبابه الأخيار، فقال عز من قائل:?? ????????? ??????????????? ??????????? ? [الحجرات:10]. فوجبت موالاتهم، وقال: ? ????? ??????????????? ?????? ?????????? ?????????? ? [هود:113]، فوجبت عداوتهم، إذ ليس من حكمة الحكيم أن يساوي بين المحسنين والمسيئين، وذلك قوله: ? ??????????????? ???????????????? ????????????????? ???? ??? ?????? ?????? ???????????? ???? ? [القلم:35-36].(1/253)


ثم اعلم - أكرمك الله بهدايته، وأتم عليك ما أولاك من نعمته - أن الهجرة واجبة على جميع المكلفين، لا يعذر الله في تركها أحدا من المخلوقين، ولها وجوه وأبواب وسنذكرها، ونشرحها بعون الله ونفسرها، ولا يجوز لأحد أن يهجر ويباين قبل الدعاء إلى الرحمن، ولا تكون الهجرة إلا بعد البيان، والتلطف والبر والإحسان، وقد روي عن النبي صلوات الله عليه أنه كان يقرب الناس ويدنيهم إليه، ويلطف بهم ويفرش ثوبه لهم لتكمل الحجة بذلك عليهم، وليستعطف قلوبهم بإحسانه إليهم، وفي ذلك ما يقول الله عز وجل فيما أوحى إلى رسوله ونزل: ? ?????? ??????? ??????? ???????? ?????????????? ????????????????? ?????????????? ? [النحل:125]، وقال: ? ????????? ??????????? ???? ????????? ????????? ???????? ?????????? ????????????? ????????? ????????????? ??????? ??????? ???? ? [فصلت:34]. فإذا فعل ذلك وقربهم بالموعظة الحسنة إلى ربهم، فهو مستوجب لإحسان الله وثوابه، ناجٍ عند الله من سخطه وعذابه، فإن هم أجابوا إلى ما دعا إليه، فقد وجب حقهم على الله وعليه، وكان له عند الله كأجر كل من أجابه، وزاده الله على أجره وأثابه، وينبغي له حينئذ ألا يحملهم فوق طاقتهم، ولا يكلفهم جميع الشرائع في آخر ساعتهم، لأن الطبيب لا يحمل على المريض ما لا يطيق، ولا يكلفه من الأدوية ما لا يليق، وإن أبوا إلا التمادي في الضلال، واتباع الكفرة الفجرة الجهال، وجب عليه الإعراض عنهم، والتنحي بجهده وطاقته منهم، وينبغي له إذا هجرهم ألا يفحش في كلامه لهم، إلا أن يطلبوا قتله فيدفعهم، وإن أمسكوا عن قتاله قطعهم، ولم يجز له بعد المقاطعة أن يحل معهم، وإن نابذوه في دينه نابذهم، ولم يجز له أبدا أن يخضع لهم، وحرمت عليه مكاينتهم، ولم يجز له أبدا مقاربتهم، وإن أقروا بفضله عليهم، فلا بأس بالبر والإحسان إليهم، ولا يحرم عليه الانتفاع بهم، إذا كان ماقتاً لهم في فعلهم، داعيا لهم طول(1/254)


دهره إلى ربهم، وكان مع ذلك لا يركن إليهم، ولا يأكل شيئا من ذبائحهم، ولا يجيز شهادتهم، ولا يجيب دعوتهم، وكان يكتمهم أسراره، ويحمل عندهم أموره وأخباره، ففي أولئك ما يقول الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه: ? ???? ????????????? ?????? ???? ??????????? ???? ???????????????? ? ????????? ?????? ?????????????? ????? ????????????? ???? ?????????????? ???????????????? ???????????? ?????? ?????? ????????? ???????????????? ??? ?????????? ????????????? ?????? ???? ?????????? ??????????????? ? ????????? ????????????????? ???? ????????????? ?????????????? ??????? ???????????????? ???? ??????????????? ????? ?????????????? ????????????????????? ???? ???????????????? ??? ? [الممتحنة:8 - 9]. ففرق عز وجل بين هؤلاء الفاسقين، وبين هؤلاء الظلمة المحاربين، وإذا أعرضت عن الفاسقين وعن قربهم، واستغنيت في ساعات حوائجك عنهم، فإعراضك وموعظتك حجة لله عليهم، إذ أنت مع ذلك لا تركن إليهم، وإن هجرتهم على فسقهم، ولم تستغن في حوائجك بهم، فذلك جائز لك غير حرام عليك، حتى يرجعوا صاغرين إلى الله وإليك، ويجب على المسلم في والديه، إذا لم يقبلا من الحق ما في يديه، أن يتباعد منهما بجهده، وكذلك من خالف الحق من أهله وولده، غير أن الله سبحانه أوجب للأبوين من الكسوة والنفقة إذا كانا فاسقين، ما لم يوجب لغيره مما من الأقربين، ولم يحكم به لسواهما من المخلوقين، ويجب على الرجل في زوجته إذا لم تُقبل إلى الحق، ولم ترجع من المحال إلى الصدق، أن يهجرها مليا من الدهر أو يطلقها، ولا يحل له أبدا أن يدنو منها، إلا أن تتوب إلى الله من العصيان، وتُقبل صاغرة إلى طاعة الرحمن، ويجب عليه في بنيه أن يؤدبهم، ويستقبل بالنصفة قلوبهم، ويحبب إليهم الدين ويقربهم، فإن أبوا إلا عتوهم وكفرهم، وجب عليه أن يبعدهم ويهجرهم، وهذا جواب ما سألت عنه من ولاية(1/255)

51 / 58
ع
En
A+
A-