وليعلم من سمع قولنا، وفهم تأويلنا، أن الوحي الذي ذكرنا، فيما تقدم من كلامنا، إن الله ختمه بنبينا، هو هبوط الملائكة، وما كان يسمع موسى من المخاطبة، فذلك الذي ختمه الله وقطعه بعد محمد صلوات الله عليه، لأنه علم أنه أفضل الآدميين، ففرق بينه وبين أهل بيته أجمعين، بأن جعلهم له تابعين، وبشريعته مقتدين، ولو علم في ذريته أفضل منه، لأزاح ختم النبوة عنه، ولجعل بعده أمناء مثله، ولما أبان على فضلهم فضله.
والوحي فهو على أوجه معدودة، وأسباب محدودة:
فمنه: ما يكون على ألسن الملائكة المقربين.
ومنه: ما يخلق في أسماع المرسلين.
ومنه: ما يقذف في القلوب.
ومنه: ما يرى في المنام. وكل ذلك لا يتهيأ إلا لذي الجلال والإكرام.
وأما الوحي فإنما يسمى: وحيا، لأنه شيء خفي، لا يسمعه إلا الموحي إليه، ولا يطلع أحد سواه عليه، لأنه سر من أسرار الحكمة، وكرامة من أجلِّ النعمة، ولطف من أحسن اللطف والرحمة.(1/246)
وأما خطاب الملائكة فلا يكون بعد النبي، ولا يدعيه إلا كاذب من الأنام، وكذلك ما كان يسمع موسى عليه السلام من الكلام. وأما الوحي الذي جعله الله في المنام، فلا ينقطع أبدا عن أهل الفضل والإسلام، ولأئمة الهدى من ذلك ما لا يكون لأحد من المخلوقين، ولا يمكن أن يلقى إلى أحد من المؤمنين، لأن الأئمة شركاء النبيين، وفي ذلك ما يقول أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين، عليه صلوات رب العالمين: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((الرؤيا الحسن من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)) (1). وكان يقول صلى الله عليه وآله: ((لم يبق بعدي إلا المبشرات. قيل: ما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)). وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)). وقد فسر الحلم في كتاب الرؤيا بأبين البيان، ولقد شاهدنا بحمد الله من عجائب الأسرار المكتومة ما لو ذكرناه لما صدق به إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، وإني لأحتاج إلى الحاجة فأطلبها من مولاي تبارك وتعالى، فأرى في المنام قائلا يقول: إن حاجتك التي تطلب في موضع كذا وكذا، أو عند فلان، وربما تحيرت في سبب فأطلب منه البيان، فما ألبث في منامي إلا يسيرا حتى أرى قائلا يقول: قد استجيبت الدعوة، ثم يشرح لي ذلك القائل كلما سألت عنه، حتى أرى من البيان أكثر مما طلبت، وربما أغفل عن الشيء فأرى في المنام من يقول: لا تغفل عن هذا الشيء، فإن فيه خيرا ومصلحة، وإن كان شرا قال: لا تغفل عن هذا واحترز منه، فإن فيه هلاكا وشرا، وربما أرى في المنام سرا مكتوما، وعلما مكنونا، مما سيكون ويحدث، من الخير والشر، والموت والقتل،
__________
(1) انظر مقدمة سيرة الأميرين، تحقيق الدكتور/ رضوان السيد، والسيد/ عبدالغني محمود. وقد أفدت كثيراً في هذه الدراسة مما كتباه ونقلت نصوصاً طويلة، راجع المقدمة.(1/247)
فيقال: سيحدث هذا الأمر في الشهر الفلاني، أو في اليوم الفلاني، في أول النهار، وسيقتل فلان، أو سيموت فلان، وهذا على الدوام والحمد لله.
وربما أخبرت بعداوة العدو، وولاية الولي، فأحترز من العدو، وأنبسط إلى الولي، وربما امتحن الله أولياءه الفينة بعد الفينة، وربما أحتاج إلى معنى من المعاني، فأرى صورة ذلك المعنى في المنام، وإلى ما يئول، وكيف يكون، وربما أطلب من الله حاجة أجهلها، وأطلب منه بيان ما أريد من صلاحها، فإذا هجم عليَّ النوم رأيت رجلا يصف لي الحاجة التي أطلب، ويقول: أنا أشير عليك بطلب حاجتك هذه، ولكنها تعسر عليك من وجه ذا وذا، وتسهل من وجه كذا وكذا، وحاجتك هذه التي أشير عليك بها، صفتها ونهتها وحليتها كذا وكذا، أصلها كذا وكذا، فأنظر ذلك جهارا على ما وُصِفَ لي في المنام، وربما أغفل عن النعت والصفة، لوجه من وجوه الحكمة، وضرب من ضروب المحنة، وربما اشتبهت عليَّ الإجابة بالألغاز، والتعريض والإشارات، حتى يتبين لي الجهل من نفسي، والعجز عن إدراك مرادي، فأدعو إلى الله عز وجل: يا رب إني لم أفهم ما أوميت إليه، ولم أقف بفهمي عليه، فبيّن لي أمره، فإني لا أقدر على فهمه، فإذا نمت هجم عليَّ تفسير تلك الألغاز، بأبين ما يكون من البيان، وأوضح ما يحتاج إليه من البرهان.
وقد يجب على الغافل إذا ورد عليه ما لا يفهمه من اللغز والإشارة والتعريض، لا يعجل ولا يتقحم على الشبهة، فإن التقحم بغير بينة، لا يؤمن معه الزلل والخطأ، لأني رأيت في المنام قائلا يقول: إن من الرؤيا ما لا يتبين عند رؤية النائم، وربما رأيت شيئا والمراد سواه، ولعمري لقد جربت ذلك فربما رأيت السيد في المنام، وإنما الرؤيا لعبده، وربما رأيت الأب، وإنما الرؤيا لولده، وربما رأيت الرؤيا للرجل، وإنما هي سميه أو قريبه، وليس لعاقل أن يفسر الرؤيا لنفسه، ولا يعتقد ظاهر ما يرى في منامه، لأن الرؤيا من حكمة الله، وغور حكمة الله لا يدرك.(1/248)
ومن الرؤيا: بيان ولغز وإشارات، وأخبار وبشارات، ومواعظ وآداب وعلامات، وليس يفسر كثيرا من الرؤيا بالوهم، إلا قليل الورع جاهل أحمق، لأنك ربما رأيت شرا وتأويله خير، وربما رأيت خيرا وتأويله شر، وليس يبين الحكيم كل أموره للعباد، وليس يريد بكتمانها التعمية والتجهيل، وإنما يريد بذلك أن لا يتكلوا على البيان، فيغفلوا عن استعمال العقول، والغفلة ربما كان فيها الهلاك، وإنما يريد أن يمتحنهم بترك البيان، لينظروا ولا يغفلوا، لأن الإتكال على البيان يوجب ترك النظر والبحث والطلب، وترك النظر يوجب البلادة، والبلادة توجب الوقوع في المصائب، والوقوع في المصائب يوجب الهلاك، وترك البيان يوجب الفاقة، والفاقة توجب الخوف، والخوف يوجب الطلب، والطلب يبعث الحيلة مع التثبت والأناة، والتبيين والتمييز، والكشف والبحث، لأن الحكيم عز وجل لا يرضى بالفساد، ولا يقصده لأحد من العباد، ولا فساد أعظم من إهمال العقل، والإقامة في البلاهة والجهل، لأن في ذلك الزهد في الحكمة، ومن زهد في الحكمة فقد رضي بالضلالة، والضلالة مذمومة، ومن اختار المذموم على المحمود فقد بلغ الغاية في الخطأ.(1/249)
وقد زعم قوم أن التوكل على الله في جميع الأسباب واجب، وجهلوا حقيقة التوكل، وإنما حقيقة التوكيل على الله اليقين بالله، والرضى بجميع ما قدر وقضى، ولو كان التوكل هو: أن يغلق المتوكل عليه بابه، ويهلك نفسه، لكان من لم يفعل ذلك غير مؤمن بخالقه، ولو جاز له أن يفعل ذلك، لجاز له أن يحج إلى بيت الله الحرام بغير زاد، وأن لا يستعد لأعداء الله في الجهاد، ولا يطلب العلم الذي ينجو به من عذاب الله في يوم المعاد، وإذا صار إلى ذلك فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، وخرج من الحقيقة إلى البدعة، وهذا جهل ممن ظنه وتوهمه، فضلا عمن عمل به واعتقده، لأن الدنيا دار المحنة والحاجة، وليست بدار الآخرة والنعمة، والله يقول عز من قائل: ? ????????? ????????? ???????????? ??????????????? ? ??????????? ???????????????? ??? ??????? ?????? ????????????? ?????? ???????? ???????????? ????????????? ???? ? [الجمعة:10]. وهذا كثير في القرآن، بيّن غاية البيان.
- - -
كتاب الرؤيا
كتاب الرؤيا
إن سأل سائل فقال: هل الله في الأماكن بذاته، أم هو في الأشياء بعلمه وإحاطته... إلى قوله في الجواب: وإنما معنى قولنا: إنه في الأشياء، نريد بذلك أنه مدبر في الأرض والسماء، وفيما بينهما من الأحوال، لم ينقطع من الأماكن تدبيره، ولم يعدم فعله وتقديره، وإدراكه للأشياء فهو: علمه بها، وعلمه فهو: قدرته عليها. فأما من زعم أنه عالم قادر، ولم يقل أن العلم والقدرة هما الذات، وكذلك ما وافقهما من الصفات، فقد جهل حقيقة العلم لتناقض قوله، ونفي إدراكه للمعلومات بجهله، وبلغ الغاية في مكابرة عقله، لأنه قد أقر لله بإدراك معلوماته، إذ الدرك من أكرم صفاته، والدرك حق عند جميع ذوي الألباب، وليس شيء غير الله رب الأرباب، لأن الدرك يخرج على وجهين:
فدرك من صفات المخلوقين.
ودرك هو من صفات رب العالمين.(1/250)