(ولم يسمع قول الله عز وجل: ?وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)? [الزمر]، وقوله: ?وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)? [الحاقة]، فكيف يكون تعالى محمولا؟!
(وفي كتابه أيضا الذي سماه "المعجز" أنه قال: إن أسماء الله تعالى هي الله، والأسماء أشياءُ كثيرةٌ على ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله تسعةٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فجعل الله أشياء، وقد قال الله عز من قائل: ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا? [الأعراف:180]، فأدخل عليها الجمع والتأنيث ولام التمليك، وقد يدخل اسم الكل والبعض، كما يقول المصلي: باسم الله وبالله والأسماء الحسنى كلها لله، فأَحلّ (كلّ) هاهنا والتأنيث.
(ثم انتهى آخره بعد ذلك إلى أن ادّعا أنه المهدي، وأنه يملك الأقاليم السبعة. ثم انتهى آخره بعد ذلك إلى أن قال: إنه أفضل من رسول الله، وأن كلامه أَبهرُ من كلام الله.
(ثم كتب كتابا إلى إمام مقتصدٍ من بني الهادي إلى الحق عليه السلام وكان إمام مسجد الهادي إلى الحق عليه السلام بصعدة، وكان عالما عابدا عفيفا ورِعا زاهدا، وهو المحسن بن محمد المختار بن الناصر بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وكتب إليه كتابا يقول فيه:
(أما بعد، أيها الفاسق المنافق، الرجس النجس، البغيض المبغض، فإنه بلغني أنك تهجوني، وتزعم أني لستُ المهدي، فأنت أنت ومن معك بكل علم أنزله الله والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وبكلِّ علمٍ أنزله الرحمن، فلا يكون في علمي إلا كالمَجَّة في البحر. وما أنت يا مسكين؟! وما الفرق ما بيني وبين الأنبياء الأخيار والأئمة الأطهار إلا كفرق ما بين الليل والنهار!(1/21)


(فردَّ المحسن بن محمد رحمه الله جواب عاقلٍ عالم، فذمّ الرفث والقول الشنيع، وأنشد من قول العرب:
ويشتموا فترى الألوانَ مُسفِرةً ... لا عَفوَ ذُلٍّ ولكن عفو أحلام
(واحتج عليه بكتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها: في ادعاء الفضل، قول الله تعالى: ?أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)? [النجم] واحتج في القرآن بقول الله تعالى: ?لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)? [الحشر].
(وهذا الكتابُ صحيحٌ منه، وهو في أيدي أصحابه إلى اليوم، وهو أيضا عندنا في كتب بني الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المبتدا والجواب، ولا يمكن نفيه عنه لتواتر الأخبار، ولقرب العهد، ولإجماع المخالف والمؤالف أنه منه.(1/22)


(ويجري من الجواب فيما ادعاه، قول الله تعالى: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)? [الأنعام]. فهذا فيمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، فكيف من قال: إن جميع ما أنزل الله في علمه كالمجة في البحر؟! وهذا ضرب من ادعاء الربوبية. وقال الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (50)? [النساء].
(ثم لأصحابه بعده أكاليم مستنكرة.
(منها: أنهم ادعوا أنه يعلم الغيب.
(ومنها: أن رجلا من بني أخيه يقال ل‍ه: قاسم بن محمد بن قاسم بن جعفر زعم أنه يشافهه ويكالمه. وحَدّثني مَن أثِقُ به أنه قال ل‍ه: هل رأيتَ المهدي أنت؟ قال: نعم. قال: كان معي في بيتٍ ثم قام وتهيَّأ للخروج، فانفلق ل‍ه جدارُ البيت فخرج منه ولم يخرج من الباب. وقال: إنه أمره بالحج إلى عيان فأقام يحجّ سنينَ كثيرةً، وفتح شريعة الحجّ من مكة إلى عيان، فأقام يحجّ سنين كثيرةً هو وقوم من أصحابه قدر مائة رجل ويزيدون. وكانوا يفعلون ذلك في أيام عيد عرفة، حتى قال فيهم:...(1/23)


حَجَّ الأنامُ إلى المحصّب من مِنًى ... وإلى مَدَقّة حَجَّ آلُ القاسم(1)
(ولهم مخالط كثيرةٌ! وفيما أوردنا من جهلهم وكذبهم وقلّة عقولهم كفاية)(2).
وقال الإمام أحمد بن سليمان أيضا: (ثم قام بعده [أي الإمام القاسم العياني] ولده الحسين بن القاسم فدعا إلى طاعة الله وإلى الجهاد في سبيل الله، ثم بدا منه بعد ذلك أنه هو المهدي، قال: الذي تُملا به الأرض عدلا كما ملئت جورا‍! أو قيل: إنه قال: هو أفضل من رسول الله، وكلامه أبهر من كلام الله! وكان قد طلّق زوجةً ل‍ه وانقضت عِدتُها وتزوجها رجل، فلما علم بنكاحه لها، أخرجها منه بغير طلاق! وتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتج بقول الله تعالى: ?وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)?[الأحزاب])(3).
__________
(1) بينما يؤكد الإمام أحمد بن سليمان بالرواية عن شخص مسمى يذهب أحمد بن عبد الله الوزير إلى أنه (لابد للمتخالفين في الاعتقاد أن يرمي كل واحد صاحبه بما لم يقله في أهل الحق والباطل، ومما رمى به "الجعيد" القاسمية" انهم حجوا إلى قبر "القاسم بن علي" عليه السلام..وقد أنكروا ذلك. وليس في زيارة قبور الأئمة عليهم السلام نكير وإنما ذلك من قبيل التشنيع.(تاريخ بني الوزير ص211)
(2) الحكمة الدرية /323، (مخطوط) للإمام أحمد بن سليمان.
(3) وربما كتب لهذا السبب كتابه الأكفاء، وهو يقيم فيه الكفاءة على أساسي: المنصب والدين، ويتهدد من يخالف ذلك في منطقة سيطرته بالنكال: (ومن لم يزدجر من أولئك بآدابنا وكلامنا فسنردُّه إلى الحق بسيوفنا ورماحنا. وقد عرّضتُ لمن عقل بالتلويح قبل المباينة والضرب والتصريح. فمن قبل ما أمرنا به من حكم القرآن وإلا قتلتُهُ بحدّ السيوف والمران).(1/24)


(وقال في كتاب كتبه إلى محسن بن محمد بن المختار بن الناصر بن يحيى الهادي عليه السلام - وكان من فضلاء أهل البيت وعلمائهم - وقد سأله عن مسائل، وأنكر عليه كلامه الذي تكلم به، فرد عليه كلاما فظيعا، وسبّه سبا شنيعا، ثم قال في كلامه: وما عسى أن تكون مسائلك في علمنا، وإداوتك في بحرنا؟! وما فضلُ علمنا على جميع العلوم إلا كفضل الشمس على جميع النجوم، وكل معجزة من الله الواحد القيوم.
(وما الفرق بيني وبين الأئمة الأخيار إلا كفرق ما بين الليل والنهار! وشتان- يا جاهل- بين النجوم والشمس! وهل يوجد لنا نظيرٌ من الجن والإنس؟! وقد علم الله مَقتي للفجار، ولكن يجوز ويحسُنُ عند الاضطرار.
(ثم أغرق في كلامه وأفرط وقال: ما يكون علم الأنبياء؟ّ! وعَدَّ من موسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الأئمة عليهم السلام من علي بن أبي طالب إلى أبيه القاسم بن علي عليه السلام، إلا كعُشر العُشر من علمه.
(ثم قال: فأَحضِروا التوراة والإنجيل والفرقان، وكل علمٍ أوجد الرحمن، فإنكم تجدون قولي أقوى من ذلك حُججاً، وأَبين بيانا، وأوضح نورا، وأعظم برهانا، فما عسى أن تكون مسائلك؟ وذكر كثيرا من جنس هذا.
(فرد عليه محسن بن محمد جواب عاقلٍ عالمٍ، يَذُمُّ فيه السب والكلام المعور، وأورد من كلام الله حججا، مثل قول الله: ?لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ? [النساء:148]، وكقوله: ?وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)? [الفرقان]، وكقوله: ?وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)? [آل عمران]، ومثل قوله: ?فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ? [البقرة:109]، وكقوله: ?وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)? [التغابن]. وأورد أيضا أبياتا من أشعار العرب، منها قول الشاعر:(1/25)

5 / 58
ع
En
A+
A-