وقال آخرون من المسلمين، وأولياء الله المتقين: إن الله عز وجل كَمَنَ في هذه الطبائع خيرا وشرا، وجعل فيها نفعا كامنا وضرا، فمن تناول منها شيئا نفع به وضر، وصرفه أينما شاء من الخير والشر، مثل: ما كمن الله برحمته من طبائع أدوية الأمراض، ومما يعرض لعباده من الأعراض، فبالمشاهدة يعلم أنه ينفع، ويحرك تارة ويقطع، ويكف هيجان المِمَّرة، وينفع ويلين الطبيعة، ومنه ما يحمد، ومنه أيضا ما يبرد، ومنه ما يحرق، ومنه ما يروح البدن ومنه ما يعرق، وبالمشاهدة أيضا أن من الطبائع ما يقتل ويمرض، مثل ما يستعمله أعداء الله من السموم، وما قد نهى عنه الواحد والقيوم.
مسألة
فإن سأل سائل مسترشد، أو قال قائل متعنت ملحد: ما تقولون في المؤمنين، وأصحاب الأخدود المتقين، الذين أحرقهم أعداء الله بالنيران، وما قولكم في الأئمة الطاهرين، الذين قتلهم أعداء الله الكافرون، وأهلكوهم بطبائع السموم، أتقولون ذلك من الحي القيوم، أم من فعل الكفرة الظالمين، الخونة الأشرار المجرمين؟!
فالجواب في ذلك وبالله نستعين: إن إهلاك أصحاب الأخدود، كان بظلم أهل الكفر والعنود، ولم يكن ذلك من الله الواحد المجيد، فأما النار التي أحرقتهم فلم يحرقهم الله بها، وإنما أحرقهم الذين ألقوهم فيها، وإنما يعذبهم الله على حركتهم، وطرح أولياء الله في النار وإسقاطهم، وجرأتهم على الله في هلاكهم، فأما الإحراق في نفسه فهو من طبيعة النار، التي كمنها الله وجعلها في الأشجار، فتناولها أعداء الله للأبرار، وذلك الحر فعلٌ فعله الله وجعله، وصنعه للمنافع ونزله، فصرفه أعداء الله في غير طاعته، وقلبوه في سخطه ومعصيته، وهو لا يخلو من أحد أوجه لا بد منها، ولا منصرف أبدا في المعقول عنها.
إما أن يكون الله هو الذي أحرق أولياءه في النار.
وإما أن تكون طبيعة الحرارة من فعل الفجار، الظلمة الخونة الأشرار.
وإما أن يكون ذلك من فعل النار.(1/236)
وإما أن يكون لا من فعل الله ولا من فعل الكافرين، ولا فعل الطبيعة الكامنة ولا من فعل المقتولين.
فإن قلت: إن الله هو الذي قتل المؤمنين، فهذا ما لا يجوز على رب العالمين، ولا ينسبه إليه أحد من المسلمين. وإن قلت: إن ذلك الإحراق من فعل الكافرين، فهذا ما لا يقول به أحد يعقل من الناس أجمعين، لأن الكافرين لا يقدرون على فعل الإحراق، لأن الحرارة طبيعة من فعل الواحد الخلاق، وإنما فعل أعداء الله الحركة والسكون والضمير، والطرح لأولياء الله في النار والسعير. وإن قلت: إن ذلك الإحراق من فعل المقتولين، فهذا أشبه شيء بقول المجانين! فلا بد من الرجوع إلى ما قلنا من فعل الطبيعة الكامنة في الأجسام، التي كمنها الله لمنافع الأنام.
فإن قال: كيف تفعل الطبيعة وهي لا تعقل ولا تعي، ولا تقصد شيئا من الأمور ولا تهتدي؟(1/237)
فالجواب في ذلك وبالله التوفيق والتسديد، ومنه العون والنصر والتأييد، والقوة والهداية إلى ما نقصد ونريد: إنها تفعل بإذن الله فعل طباع الكمون، ولا تفعل فعل أهل العقول والتدبير، لأن ذوي العقول والتدبير يفعلون بالاختيار، وفعل الطبيعة بالتركيب، وإنما أنكرنا على ذوي الإلحاد، أنهم أضافوا الحكمة إلى الجماد. فقلنا: ذلك يستحيل، ولا تقبله عن قائله العقول، لأن الجمادات لا تفعل أعاجيب التدبير، ولا يكون ذلك إلا من العليم القدير، لأنا وجدنا الحكمة التي في الجوارح، وتركيب أدوات جميع المصالح، تدل على علم الصانع... (1) الألباب مثل خلقه عز وجل للذكر والأنثى، وجعله لأجسامهما صنعا محدثا، ومثل خلقه وفرقه بين الرؤوس والأقدام، ومثل فرقه بين مخارج الماء والطعام، ومداخلهما ومجاريهما ومسيرهما في الأجسام، ومثل فرقه بين العقول والأوهام، ومثل تقديمه للمراضع في صدور الإناث، لعلمه بحاجة الأطفال قبل الإحداث، ومثل هداية أطفال البهائم إلى الرضاع لعلمه بفاقتها إلى الإلهام، ومثله صنع ذي الجلال والإكرام، لأن الطبائع لا تفعل أعاجيب التدبير، ولا يتم ذلك إلا بالله العليم الخبير، الواحد الأحد السميع البصير، الفرد الصمد العليم القدير، مصلح الأمور بالأمور، والعالم بعجائب التقدير، والمحسن في العباد بالتصوير، وما لا يحصى من عجائب التدبير، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وسلم تسليما.
- - -
كتاب الأدلة
كتاب الأدلة
إن الله جل جلاله خلق الخلق لإظهار حكمته، ودلهم على نفسه بآثار صنعه، وجعل أقرب الأدلة عليه لخلقه، ما ركب فيهم من عجائب فعله، فكل ما فطر فهو دليل عليه، وهاد جميع العباد إليه، فالحمد لله الذي هدانا إلى معرفته، وامتن علينا بإظهار حكمته، وابتدأنا بفضله ورحمته، وبعد:
__________
(1) بياض في الأم.(1/238)
يا أخي - وفقك الله - فقد سألت عن أَولى ما سأل عنه السائلون، وقال به في دين الله القائلون، إذ لم يُوجد الله سبحانه الخلق إلا لما عنه سألت، ولم يقصد الحكمة إلا لما قصدت، من إبانة الدليل على وحدانيته، والإقرار بعد ما صنع بإلهيته، والتوصل بذلك إلى رحمته، فعلمتُ عند سؤالك عن الدليل على الله - سيدَنا - أن قد وُفِّقت إن شاء الله لسؤالنا، وحُبيت منه بأفضل جوابنا، وأنور الأدلة على مولانا وخالقنا، ورأينا عند ذلك أن دلائل الله أجل من أن تحد، وأكثر من أن تحصى أو تعد، فقصدنا من ذلك أهونه، وأيسر ما يحتاج إليه وأبينه، فاستغنينا لك به إن شاء الله تعالى عن غيره، إذ كان في قليله كفاية عن كثيره، ورجونا أن لا يعزب عنك الاختصار، وأن يمكنك بعد ذلك الإمعان والإكثار، فنسأل الله أن يعينك على طاعته، وأن يوفقك لمرضاته.
باب الدلالة على معرفة الله سبحانه
قال عليه السلام: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على معرفة الله سبحانه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على معرفته، ما صنع وخلق من بريته، وأقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه، وذلك أنا وجدنا الإنسان نطفة من ماء مهين، ثم رأيناه بعد ذلك مؤلفا مركبا، موصلا مفصلا، محكما مدبرا، فعلمنا أن له مدبرا خالقا، إذ لا بد لكل تدبير من مدبر، ولا بد لكل تأليف من مؤلف، ولا بد لكل تفصيل من مفصل، ولا بد لكل توصيل من موصل، ولا بد لكل حكمة من محكم، كما لا بد لكل بناء من بان، وكما لا بد لكل كتاب من كاتب، وكما لا بد لكل أثر من مؤثِّر.(1/239)
والدليل على حكمة الله في صنعه للإنسان: أنا نجده أجزاء وأصنافا، وكل صنف منه قد جعل لشيء بعينه، ولا يجعل الشيء لصلاح الشيء إلا عالم، وذلك مثل المفاصل التي جعلت للحركة، ومثل المداخل والمخارج للأغذية، ومثل العقل الذي جعل للتمييز بين الأمور، واختلاف الخيرات ونفي الشرور، ومثل العين جعلت للنظر، والأذن التي جعلت للسمع، واليد التي هي للبطش، والرجل التي جعلت للخطو والمسير، وغير ذلك مما لا يحصى من التدبير، ومثل خلق الأنثى للذكر، وما فطر عليه من ذلك جميع البشر، ففي هذا والحمد لله من بيان الحكمة ما لا ينكر منكر، ويتحير فيه متحير.
فإن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن هذه الحكمة التي ذكرتم، من صانع حكيم، ومدبر خبير عليم، وما تنكرون أن هذه الحكمة من طبع قديم، فسنورد عليه من القول بيانا، ونوضح له إن شاء الله هدى وبرهانا، فاسمعوا لجواب قوله تهتدوا، وضمنوه قلوبكم ترشدوا؟(1/240)