وأما الوجه الثاني فهو: حب الله لأوليائه المؤمنين، وهو ثوابه ونعمته للمطيعين، والله غني عنه وغير محتاج إليه، لأن المحتاج إلى الرزق لا يكون إلا مبنيا على الحاجة إليه، والله يتعالى عن الحاجة إلى الأرزاق، واجتلاب النعم والأرفاق، لأن الذي يرتزق ويغتذي (1)، لا يكون إلا مضطرا غير غني، ومن كان مضطرا فهو فقير إلى اللذات، مبني على الحاجة إلى الشهوات، والملتذ لا يكون إلا جسما مجتمعا، متحركا أو ساكنا، وقد بينا حدث الجسم فيما تقدم من كلامنا.
والبغض يخرج على وجهين:
فمن ذلك: بغض الآدميين، وإضمار كراهة (2) ما يكرهون، والله يتعالى عن شبه المخلوقين.
والوجه الثاني فهو: بغض الله الكافرين، وهو أليم عذابه ونكاله للفاسقين، والله ليس بذي جسم فتحله الآلام، ولا بذي شخص (3) فتلعقه الأسقام، بل هو رب العالمين، وفاطر السماوات والأرضين، فتبارك وتعالى عما يقول الظالمون، وتقدس عما يتفوه به الجاهلون، وتنزه عما يقول المفترون!!!
مسألة
وكذلك إن سأل فقال: أيكرم الله نفسه أم يهينها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: من هذه (4) المسالة ما هو من المحال، ومنها ما يليق بالله ذي الجلال، لأن الكرامة على وجهين:
كرامة تنزيه عن الظلم والعدوان، وذلك أولى ما وصف به لرحمن، فهو يكرم نفسه عن ذلك جل جلاله، وكرمت عن الجور والدناءة أفعاله.
والوجه الثاني: فكرامة النعيم، وما يتعالى عنه الواحد القديم، وهذه الكرامة فتستحيل على (5) الله الرحمن الرحيم، وكذلك الهوان على وجهين يستحيلان على (6) الرحمن:
فوجه هوان دناءة الأفعال، والجور والسفه في الأعمال، وذلك منفي عن الله ذي الجلال.
__________
(1) في (أ): يرزق ويغتدي.
(2) في (أ): كراهته.
(3) في (أ): حسد.
(4) سقط من (أ): من هذه.
(5) في (أ): عن.
(6) في (أ): مستحيلان عن.(1/231)
والوجه الثاني فهو: أن العذاب الأليم، وما جعله الله ضد الرحمة والنعيم، وهو مما يستحيل على (1) الخلاق العليم، لأن الألم لا يحل إلا في الأجسام، وذلك فيتعالى عنه ذو الجلال والإكرام.
مسألة
وكذلك إن سأل فقال: هل يقدر الله أن يُعلم بعض خلقه جميع معلوماته، فإن قلتم: يقدر فقد صار غيره في العلم مثله، وإن قلتم: لا يقدر عجَّزتموه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة متناقضة، لأنك قلت: هل يقدر أن يُعلم بعض خلقه جميع ما يعلمه، فجعلت لمعلومه (2) جميعا، والجميع يتناهى ومعلوم الله لا يتناهى ولا يحد، ولا يحصى أبدا ولا يعد، فالنقض لمسألتك أتى من عندك، لما في مسألتك من تناقض قولك.
ألا ترى أن الله من معلوم نفسه، وليس له جميع فيكون محدودا، وليس بعدد فيكون معدودا، فكيف يريد أن يُعلم خلقه نفسه، ونفسه لا تعلم، ولا تدرك بغير الأدلة ولا تفهم، لأنها نفس ليست من الكل والأبعاض، ولا من الأجسام والأعراض، وسؤالك فإنما هو عن (3) كل المعلومات، والكل فلا يصح إلا من المصنوعات.
مسألة (4)
فإن سأل فقال: أخبروني لِمَ زعمتم أن هذه المسائل تستحيل، ولا يجوز [أن] يوصف بها الواحد الجليل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إنما استحالت هذه المسائل لتناقصها، وتكاذبها في المقال وتداحضها، لأنك أيها السائل تسأل عن الله الجليل، ثم تنقص بالقول المستحيل، وتشبه الله بالعبد الذليل، مثل قولك: هل يقدر أن يفني نفسه؟! فجعلته ثلاثة وإنما هو الواحد الأحد، القديم العظيم الفرد الصمد، فكأنك سألت عن مخلوق وأنت تحسبه خالقا!! وسألت عن ثلاثة وأنت تحسبها واحداً!! لأن المفِِي هو الفاعل والمُفنَى هو المفعول، والفعل هو الثالث المجعول، المتوسط بين القابل والمقبول.
وصلى الله على مولاي وسيدي محمد النبي وآله، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- - -
كتاب
الفرق بين الأفعال
__________
(1) في (أ): عن.
(2) في (ب): لعلومه.
(3) في (ب): من.
(4) سقطت هذه المسألة من (ب).(1/232)
والرد على الكفرة والظلال
الفرق بين الأفعال
والرد على الكفرة والظلال
وبه نستعين. الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين، الأخيار الأبرار الصادقين، ونسأل الله التوفيق لما قصدنا من الإحسان، ونعوذ به من الضلالة والجهل والخذلان، وأشهد أن لا إله إلا الله، الحق اليقين، الواحد الأحد الصمد المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفوته ووليه وخليله، بعثه بالحق هاديا إلى الرشاد، وداعيا إلى رحمة الله لجميع العباد، وزاجرا عن الجهل والغي والفساد، فاجتهد صلوات الله عليه غاية الاجتهاد، وأنذر جميع من حوته أقطار البلاد، حتى أتاه ما وعد الله من اليقين، بعد أن أوضح به مسائل حقائق الدين، فصلوات الله عليه وعلى ذريته الصادقين، والحمد لله رب العالمين، فلما قبضه الله إليه، واختار له من الثواب ما لديه، علم أن سيكون من عباده من يحتاج إلى الهدى، وكشف الضلالة عنهم والردى، بذوي الدين والفضل والحجا، ذرية الرسول أئمة الهدى، وأعلام الدين ومصابيح الدجى، فكشف بهم أغطية الضلال، وقمع بهم مَن عاند الحق من الجهال، وأهل الحيرة الكفرة الضلال، فمن طلب الحق عند غيرهم فقد جهل، ومن عاندهم فقد ضل وخذل، لأن الله لو علم أن العباد يكتفون بعقولهم، لما فرض سؤال آل نبيه عليهم السلام، فمن رأى أن يكتفي عنهم بعقله، فقد وقع في ضلالته وجهله، لأنه كلف نفسه ما لا يطيق، ومن فعل ذلك مُنع من التوفيق، ومن لم يوفقه الله وقع في العمى، لفراقه للصفوة الحكماء، ولم يزدد بذلك من الحق إلا بعدا، لما تكلف ونصب نفسه له من الهدى، وقد أمر أن يقصد غيره قصدا، لأن الله قد جعلهم معتمدا، ولم يأمر بقصد غيرهم أحدا، فالحمد لله الذي جعلنا من ذريتهم، وبحبوحة نسبهم وذروتهم. وبعد فلما رأينا خبط جميع الناس في الجهل والضلال، وترددهم بين هؤلاء الجهال، واختلافهم في موجبات جميع الأفعال، حدانا ذلك على تبيان جميع الأحوال، ليعمل(1/233)
بذلك من أراد التعلق بذي الجلال، ولا يلتفت إلى غيره من ترهات المقال، وما زخرفه الأوباش من المحال.
فأول ما نبدأ بذكره من الأفعال، فعل الله الواحد الأحد الكبير المتعال، فألطفوا النظر فيما يلقى إليكم من المقال، فنقول: إن فعل الله يخرج على وجهين، وينقسم في المعقول على قسمين:
أحدهما: فعل فعله بالاختراع، يستخرج بالألباب، مثل فعله لأول ما صنع، وفطر من الأهوية وابتدع، وكذلك خلقه للسماوات والأرضين، فذلك ابتداع من أحكم الحاكمين.
والوجه الآخر: فعله بالعلل بالمعلولات، مثل إثباته للأرض بالجبال الراسيات، ومثل إحراقه للزبد بالنيران، ومثل ضربه للماء بالرياح، ومثل خلقه للحيوانات بعواقب النكاح، ومثل حياته التي أثبتها في الأجسام، وأقرها بطبائع الماء والطعام، ومثل خلقه للأشجار، بما نزل برحمته من الأمطار، وحياة جميع الحيوان والثمار، وهو يقدر مع ذلك أن يخلق جميع الأشياء، كخلقه للهوى والنار والماء، ولكنه أراد أن يدل ذوي الألباب على حكمته، بإصلاح الأنساب بالأسباب، لأنه لا يفعل المعنى بالمعنى، إلا عالم بما صنع وبنى، فنقول: إن الله عز وجل دبر جميع مصالح العباد، بالطبائع الأربع المركبة في جميع الأجساد، لما أراد من المصالح ونفي الفساد، وهي: الحر، والبردن واليبس، والرطوبة، وخالف بينها وجعلها من الأضداد، لما أراد من البيان للعباد، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الطبائع، لمن رغب في الحق والرشاد، فأما عرضنا في هذا الكتاب فهو بيان جميع الأفعال، ونفي ما خالف الحق من المقال، وخبط هؤلاء الظلمة الجهال، بما لا تنكره أبدا عقول المكلفين، ولا يقدر على دفعه أحد من الخلق أجمعين.
وأفعال الله عز وجل بالطبائع هي كما ذكرنا، من حياة الأشجار بالماء، فأما التصوير فمن رب العالمين، ولا يكون ذلك أبدا من غير أحكم الحاكمين.(1/234)
ووجه آخر: أن صعود الماء إلى الثمار، وعلوه مصعدا في أعالي الأشجار، لا يكون إلا من الواحد القهار، لأن الماء طُبِعَ على الانحدار ولم يطبع على الصعود والعلو في الأغصان، لأن ذلك لا يوجد إلا بالله الواحد الرحمن، وكذلك النطف التي في الأرحام، فتصويرها من ذي الجلال والإكرام، وأما الغذاء بحرارة الأرحام، فهو طبيعة تفضل الله بها على الأنام، كما تفضل عليهم بالماء والطعام، فمن زعم أن الرحم التي صورت، وأن المياه والأرضين التي قدرت، وصنعت الصورة ودبرت، فقد كفر صاغرا وأشرك، وهلك بجهله فأهلك، لأن الماء يغدو بطبيعة البرد واللين، والصورة في نفسها ليس لها طبيعة غير حكمة الله الحق اليقين، لأن كل شيء في الصور يدل على الحكمة، والعلم الحق المبين، ولله عز وجل فعلان، فعل الإرادة والقصد في الأحيان، وفعل طبائع كامنة في الجمادات والأبدان، كمنها قبل هذا الزمان وفي هذه الأزمان، وأما الإرادة والقصد منه تبارك وتعالى، فمثل خلقه للذكر والأنثى، وأما الفعل الكامن فمثل طبائع الحجارة والنيران، ومثل المياه والحديد وغير ذلك من صنع الرحمن.
واختلف في هذه الطبائع فقال بعضهم: هي تفعل لغير صانع صنعها، ولا فاطر فطرها وابتدعها، وهم الملحدون، الكفرة الأنجاس الجاحدون، قد رددنا عليهم في كتاب الطبائع وغيره، ما يكتفى به عن إعادته وتكريره.(1/235)