وأما قولنا: إن الله شيء، فإنما نريد بذلك: إثبات الموجود، ونفي العدم المفقود، إذ ليس إلا موجود أو معدوم (1)، فالموجود شيء والمعدوم لا شيء، فلما وجدنا الصنع علمنا أن الصانع شيء، ويستحيل أن يصنع العدم شيئا، ويستحيل أن يصنع الجسم جسما، لما قد وصفنا.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يقدر الله أن يخلق خلقا لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت جسما لا حدود له ولا جهات.
وإما أن تكون أردت أعراض الزمان والساعات، وما وعد الله بدوامه أهل الآخرة من اتصال الأوقات.
فإن (2) كنت أردت جسما لا حدود له فهذا محال، وتناقض من القول والسؤال، لأنك سألت عن الجسم المحدود، ثم نقضت بنفيك للحدود (3).
وإن كنت أردت بسؤالك، وبما ذكرت من مقالك، أعراض الآخرة ودوام ساعاتها، واتصال حدوث أزمنتها وأوقاتها، فكذلك نقول إنه لا انقطاع لدوامها.
مسألة
وإن سأل فقال: هل يقدر الله أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا باطل لا يجوز على الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه.
وذلك أنك (4) قلت: هل يقدر الله أن يعلم، فجعلت العلم من المفعولات المحدثات، وأخرجته من الصفات الأزليات، والمقدور عليه لا يكون إلا من المحدثات، وذلك كعلم الإنسان المستفاد بالأفهام (5) المدركات، والله يتعالى عن الجهل والنقصان، ويتقدس عن شبه الإنسان، وغيره من الحيوان(6)، وغيره من صنع الواحد الرحمن.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يريد الله أن يقدر؟
__________
(1) في (ب): موجودا أو معدوما.
(2) في (أ): وإن.
(3) في (أ): بقولك الحدود. مصحفة.
(4) سقط من (أ): وذلك أنك.
(5) في (أ): بالأفعال.
(6) في (أ): الحيوانات. مصحفة.(1/226)
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة من أحول المحال، وأولى ما تنزه عنه ذو الجلال والإكرام، لأنك قلت: يريد أن يقدر؟! والإرادة فمن المفعولات، والقدرة فمن الصفات الأزليات، ولا تكون الإرادة إلا بقدرة من قدير، لم يسبق قدرته ضعف ولا تقصير، فجعلت الصفة القديمة من المفعولات، فنقضت قولك!! لأنك قلت: يريد، والإرادة فهي الفعل، والفعل لا يكون إلا بقدرة، فكأنك قلت: يخلق القدرة بقدرة، وهذا محال متناقض وربنا محمود.
مسألة
وإن سأل فقال: هل يريد الله أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة تستحيل عن ربنا جل جلاله، وظهرت نعمه (1) وأفضاله، لأن العلم ليس بمفعول، ولا هو شيء سوى الله معقول، والإرادة على الأفعال، فلا تتم إلا بعد العلم بالأعمال.
مسألة
فإن رجع إلى الحق، وسأل عما يليق بالله من الصدق، فقال: هل يعلم الله أن يقدر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم هو سبحانه يعلم أنه يقدر.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يقدر الله سبحانه (2) أن يريد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم يقدر سبحانه، وجل علمه وسلطانه، وظهر دليله وبرهانه، أن يريد، لأن الإرادة فعله، والله قادر على الأفعال.
فإن قال: فهل يعلم أن يريد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم يعلم (3) سبحانه إنه يريد، ولا يخفى عليه في(4) سابق علمه ما سينقص من فعله ويزيد.
مسألة
فإن قال: فهل يعلم أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم يعلم أنه يعلم، ولا يخفى عليه شيء من المحدثات في حال العدم.
مسألة
فإن قال: فهل يقدر أن يقدر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال، لأن القدرة إنما تقع على المحدثات، وليس لله عز وجل قدرتان تقع إحداهما على الأخرى، فتكون واحدة في عداد المفعولات، وتكون الأخرى في عداد الصفات.
__________
(1) في (أ): نعمته.
(2) سقط من (أ): الله سبحانه.
(3) سقط من (أ): يعلم.
(4) في (أ): عليه بشيء في.(1/227)
فإن قال قائل: فكيف جاز قولك: يعلم أن يعلم، وبطل (1) قولي يقدر أن يقدر؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: للعلة التي قد ذكرنا، وذلك أن الله عز وجل يعلم أنه عالم بكل معلوم، كما هو قادر على كل مقدور، ويستحيل قولك: يقدر أن يقدر، لأن القدرة إنما تكون على الأفعال، وليس لله قدرة أخرى، فيما يعلم كل ذي عقل وحجى، إلا أن تريد بقولك: يقدر أن يقدر، تريد: أن (2) يفعل المفعولات، فنقول: قد أصبت فيما اقتصرت عليه، ولم تخُطِ فيما نسبت من لفظك إليه.
مسألة
فإن سأل فقال: هل يريد أن يريد؟
قل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الإرادة قد اختلف فيها على وجهين:
إرادة ضمير.
وإرادة فعل.
فأما الضمير فينفى عن الله سبحانه لما قدمنا في ذلك من البيان، وأوضحنا بمن الله من البرهان.
وأما الفعل فهو أولى ما وصف به الرحمن، وأيما قصدت فلن يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن تكون تريد هل يضمر (3) أن يفعل، أو هل يضمر أن يضمر غير ما أضمر.
أو تكون أردت تكرير القول فقط، لا غير الفعل الذي هو إرادة الله عز وجل.
فإن كنت أردت أنه يضمر أن يفعل فهذا محال، لا يجوز على الله ذي الجلال، لما قدمنا من نفي الضمير، عن الله الواحد الخبير.
وكذلك إن أرت أنه يضمر أن يضمر غير ما أضمر، فهذا من أكفر الكفر والجحدان، وأحول ما استحال عن الرحمن، لأن من يحب ويهوى، ويخطر على باله الأشياء، لا يوصف بعلم ولا خبرة، ولا تدبير ولا فطرة، لأنه لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون على تلك الشهوات مجبولا مصطنعا.
وإما أن يكون عزيزا عن ذلك ممتنعا.
فإن كان غير ممتنع من الخواطر والأحوال، ولا عزيزا عن الزوال والانتقال، فذلك مضطر مفطور لا يمتنع من الحوادث والتدبير، ولا ينفك من صنع العليم القدير، وإن كان عن ذلك عزيزا، وكان من الخواطر ممتنعا حريزا، فقولك هذا كفر بذي الجلال، وجهل بالله الكبير المتعال!!
__________
(1) في (أ): ويبطل.
(2) في (أ): تريد بقولك أن.
(3) في (أ): تريد أن يضمر.(1/228)
وإن أردت تكرير القول بالإرادة، فقد أصبت، وأخطأت (1) في تكرير القول وترديده على (2) غير معنى.
مسألة
فإن قال: أخبرني عن الله أيعرف نفسه أم ينكرها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أنه لا ينكر نفسه، لأن المنكِر لنفسه الجاهل بها إذا جهل نفسه فهو لغيرها أجهل، والله يتعالى عن الجهل والنقصان، ويتنزه عن شبه المخلوقين في كل شأن.
مسألة
فإن قال: أخبرني عن معرفته سبحانه لنفسه أهي هو أم هي غيره؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن معرفة الله لنفسه هي هو.
مسألة
فإن سأل فقال: أخبرني عن الله سبحانه أخلق الأشياء من شيء أم من غير شيء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الله سبحانه خلق الأشياء من غير شيء، واخترعها اختراعا من غير بدي.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون خلقها من شيء قديم لم يزل، فنقله إلى الحدث حتى أبان فيه صنعه، من غير أن يكون اخترعه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: قولك هذا فاسد محال، لأنه لا يخلو من أن يكون نقله كله أو نقل بعضه، أو لم ينقل منه كلا ولا بعضا.
فإن قلت: لم ينقل كله ولا بعضه، نفيت ما عنه سألت وجحدت.
فإن قلت: بل نقل كله أو بضعه، أوجبت بأبين البيان حدوثه، ونفيت أزله وقدمه، لأنا قد بينا حدث الكل والبعض فيما تقدم من كلامنا، وأوضحناه في أول كتابنا، وإذا صح أن الأصل كل أو بعض، صح أن ذلك لا يكون إلا جسما، وقد تقدم من قولنا إن الأجسام محدثة، وإذا كانت أصول الأشياء محدثة فقد فسد قولك في (3) نقلها واصطناعها، وصح قولنا في اختراعها وإحداث أصولها وابتداعها.
مسألة
فإن قال: أيقدر الله أن يظلم عبيده، ويخلف وعده ووعيده؟
__________
(1) في (أ): فقد أخطأت.
(2) في (أ): في.
(3) في (أ): من.(1/229)
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم هو قادر على ما سألت، وغير عاجز عما ذكرت، وليس كلما قدر عليه الحكيم فعله، لأنا نجد الحكيم منا مع حاجته لا يفعل القبيح لذمامته، فكيف بالحكيم الغني؟! لأن الفاعل لا يفعل فعلا إلا لحاجة تدعوه إلى منفعة أو دفع مضرة، والله لا يحتاج إلى اجتلاب المنافع ولا إلى دفع المضار والفجائع، فتبارك الله وتعالى عن ظلم عبيده، وإخلاف وعده ووعيده!! وأيضا فقد يكون الكذب والسفه والعبث من الظالمين، لغير حاجة تدعوهم إلى ظلم المظلومين.
فإن قال بعض الملحدين: فما تنكر أن يعبث الله؟ تعالى سيدنا عن (1) قول الملحدين!!
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن عبثهم هذا الذي ذكرنا، وجورهم لغير حاجة فيما قدمنا، إنما يدعوهم إليه البطر والهوى، والله يتعالى عن ذلك لا يبطر ولا يهوى، لأن الهوى داعٍ إلى كل منكرِ، ومنه تولد الظلم والبطر، والهوى فهو ضمير وخاطر، والله يتعالى عن الخواطر، لأنها شهوات لا توجد إلا في القلوب، وما يتعالى عنه علام الغيوب، وقد تقدم كلامنا في الجزء الأول من نفي الخواطر عن رب العالمين، وتبيين حدوث ذلك في المخلوقين.
مسألة
وإن سأل فقال: هل يحب الله نفسه أو بعضها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا باطل محال لا يجوز على الله، لأنه غني عن الحب والبغض، لأن الحب يخرج على وجهين، وكذلك البغض:
فمن الحب ما يكون ضميرا أو نية، وشهوة في القلوب مبنية، وهذا من صفات المخلوقين المحتاجين إلى محبة أنفسهم، المجعولين على فطرة شهواتهم.
__________
(1) في (أ): من.(1/230)