وإن كانا اتفقا من قبل الاختلاف، فما حداهما إلى الاتفاق؟
فإن قلت: خوفا من الاختلاف، فالخائف ضعيف عاجز، محتاج إلى معين وشريك، والخائف من النوازل والملمات لا يكون إلا مضطرا إلى الخوف مدفوعا، وعن القدرة بالعجز ممنوعا.
وإن قلت: إنهما اتفقا لغير معنى، كان ذلك من أعظم العيوب، وأولى ما تُنزه عنه علام الغيوب، لأن الأفعال لا تكون إلا للمعاني أو للعبث والسفه والهوى، والخالق لا يعبث ولا يهوى، لأنه غني غنهما، وفي ذلك من الدلائل أكثر مما ذكرنا.
- - -
باب القدم
فإن قال: فما الدليل على أن الله قديم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على أنه سبحانه قديم أن في كل محدث صفة تدل على محدِثه، وبنية في جسده (1) تدل على بانيه وصانعه، وليس لله عز وجل صفة تدل على حدثه، ولا له ذات مركبة يدل ذلك التركيب على مركِّبه، وإذا كان الله سبحانه لا يوصف بصفات تدل على الحدث فقد ثبت له القدمن وانتفى عنه الوجود بعد العدم.
فإن قال السائل: فإذا كان لا بد لكل محدَث من دليل يدل على حدثه، فكذلك أيضا لا بد للقديم من دليل يدل على قِدَمِه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على قِدَمه تبارك وتعالى أنا وجدنا المحدثات تحتاج إلى محدِث أحدثها، وأن المحدث لها لا يكون محدَثا مثلها، لأنه لو كان مثلها وكان يشبهها، لتعذر عليه خلق الأجسام كما تعذر عليها.
- - -
باب الصفات القديمة التي هي الله عز وجل
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: إن سأل سائل ملحد، أو قال قائل مسترشد: ما الدليل على أن الله عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على علمه سبحانه وجود صنعه تاما محكما، والحكمة لا تتم من جاهل، فعلما أنه عالم بكيفية الصنع قبل فعله، كعلمه به بعد جعله.
__________
(1) في (أ): حدة. مصحفة.(1/216)


ألا ترى أن الفعل يتعذر على من يجهله، وأن الفاعل لا يقصد فعل شيء إلا وهو عالم بكيفيته بعد إكماله، وإلى ما يؤول عند تمامه واعتماله، ألا ترى أنه لو قصده بغير علم لما تم له بجهله، والله يتعالى عن الجهل والنقصان، ويجل عن شبه مَن خلق مِن الإنسان.
ودليل آخر
أنه لا يخلو في حال فعله للمفعولات، وصنعه لما صنع من المحدثات، من أحد وجهين مختلفين، متضادين غير مؤتلفين، لا يوجد إلى ثالث سبيل، ولا تشهد بغيرهما العقول:
إما أن يكون صنعها وهو عالم بكيفيتها.
وإما أن يكون صنعها وهو جاهل بصنعها، لا يدري إلى ما تصير عند كمالها.
فإن كان صنعها وهو عالم فذلك أولى ما وصف به الرحمن، وأوضح ما شهد به البرهان، وإن خلقها وهو لا يدري إلى ما تؤول، فلا فرق بين الفاعل والمفعول، لأن من قصد فعل شيء يجهله، فهو متحير لا يدري كيف يفعله، ومن تحير في شيء وشك في (1) عمله، فهو أحرى بالعجز عن فعله، فكيف يتسق له ما هو به جاهل؟! وعنه متحير غافل؟! وعن الهدى والرشد زائل؟! وبالجهل مستكين (2) ذاهل؟! أبخاطر خطر على باله فجلا عنه ما كان من جهله؟! وأوضح له ما جهل من فعله (3)؟! فالخاطر عرض يخطر (4) في القلوب، ويتعالى عنه علام الغيوب، والعرض لا يحل إلا في الأجسام، وقد بينا حدثها في أول الكلام، وإذا كان له بال يخطر عليه الذكر بعد نسيانه، ويتبين له ما عمي (5) عليه من شأنه، فقد عاد ثلاثة مجموعة:
أولها: الجسم القابل للأعراض، الجاهل الذي لم يخل من الحيرة والأمراض.
والثاني: جهله المركب المبني عليه.
__________
(1) في (ب): فيه في.
(2) في (أ): مستكبر.
(3) في (ب): شغله.
(4) في (ب): يحدث.
(5) في (أ): وتبيين ما غير. مصحفة.(1/217)


والثالث: علمه الحادث المضطر إليه، الذي لولا حدثه لما انتفع بجسمه، ولأضر الجهل بما ركب من جِرمه، ولوقع في أعظم الهلاك وهو لا يدري، ولكان لا يعقل ولا يعي، ولا بد لما اجتمع من الأشياء بعد افتراقه من جامع، ومفتطر عالم صانع، وهو الله العليم القدير، الواحد السميع البصير، الذي لا تحل به الآفات، ولا تغيره الأوقات، ولا ينقص ولا يزيد، ولا يبطل ولا يبيد.
وكذلك إن سأل عن القدرة فقال: ما الدليل على أنه قادر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على قدرته عز وجل وجود ما قدر على إيجاده، وإحداث ما صنع من مراده.
والدليل على قدم القدرة (1)، كالدليل على قدم العلم، لأنه لو خلا من القدرة لكان قبل ذلك عاجزا، ولو حدثت القدرة فيه لم يخل من أن يكون هو الذي أحدثها أو غيره.
فإن قلت: هو أحدثها، لم يكن ذلك إلا بقدرة متقدمة.
وإن قلت: غيره أحدث فيه القدرة، جعلت له خالقا، ولم يكن ربا ولا صانعا، وإذا حدث فيه حادث (2) فهما شيئان مجتمعان، وقد قدمنا الدلالة على حدث الاجتماع بأبين البيان.
فكذلك إن سأل عن الحياة فقال: ما الدليل على أن الله حي سميع بصير؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على أنه حي سميع بصير، أنه عالم حكيم قدير، ومن صح له العلم والقدرة والقدم والحكمة، فقد انتفى عنه الموت والغفلة، لأن الميت لا يكون حكيما، وكذلك الأصم الأعمى لا يكون عليما.
والدليل على قدم الحياة والسمع والبصر، أنه لو خلا من قدمها، لما كان عالما قادرا قبل حدوثها، لأن الميت لا يكون عليها قديرا، ولا يكون سميعا بصيرا، ولو حدثت هذه الصفات بعد عدمها، لكان لها محدثا بخلافها.
فإن قال أخبروني: عن القدم ما هو؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت قدم الله رب العالمين.
__________
(1) في (أ): القدم. مصحفة.
(2) في (أ): وإن أحدث فيه شيء.(1/218)


وإما أن تكون أردت غيره من قدم إنسان (1) المخلوقين، وتقادم أزمنة الأولين.
فإن (2) كنت عنيت بسؤالك قدم الإنسان، فذلك طول الدهور والأزمان.
وإن كنت عنيت قدم الواحد الرحمن، فقدمه هو ذاته وذاته قدمه، فكذلك علمه قدرته وقدرته علمه، وكذلك القول في سمعه وبصره وحياته، أنها شيء واحد هو الله عز وجل.
ألا ترى أن السمع هو العلم بالأصوات، وكذلك البصر هو العلم بالمبصرات، لا أنه كما قال أهل التشبيه ذو آلات، لما في الآلات والأدوات، من السكون والحركات، والحركة والسكون محدثان، وهما عن الله منفيان، لأنهما عرضان متداولان، وضدان متنافيان، لا يوجدان إلا في مفترق أو مجتمع، ولا يكون الافتراق والاجتماع إلا من مفرِّق جامع، وخالق فاطر صانع، وهذه صفات المحدثات التي لا تنفك من الأعراض، ولا تمتنع من الكلية والأبعاض، فهي غير ممتنعة من صنع صانعها، وتفريق مفرقها وجمع جامعها، فهي لا تعرف إلا بتقدير مقدرها، ولا تنفك من تدبير مدبرها، فجهاتها تدل على غايتها وانقطاعها، وإكمال صنعها وابتداعها، وحدودها يدل على محددها، وعددها يدل على معددها، وأدواتها تدل على فاقتها، والتفضل بذلك يدل على رحمة صانعها، فتعالى الله مولانا وسيدنا وربنا وخالقنا عما يقول المفترون!! وتقدس عما يتفوه به العادلون، وينسب إليه الضالون!! وإنما تولد الشرك والتشبيه والتجوير ونسي العدل والتوحيد، مِن قِبَل الجهل بحدث العالم، ولو علموا بحدث المحدثات لما شبهوا، ولو أيقنوا حقيقة اليقين لما ألحدوا في الله ولا كفروا.
وقد أظن إن شاء الله تعالى ظنا صادقا، وأعلم علما متحققا، أن من عظم يقينه بالله تبارك وتعالى لا يرغب في معصيته(3) أبدا، ولا يدخل في محظور متعمدا، ولا يخلو قلبه من الخشية والرحمة والهدى، ولا يدخل ما حيي في باب ردى.
__________
(1) في (أ): أسنان. مصحفة.
(2) في (أ): وإن.
(3) في (أ): معصية.(1/219)


ولقد أظن إن شاء الله تعالى أن من صار إلى ذلك فقد ظفر بأنواع الحكمة كلها، وبرئ إن شاء الله تعالى من جهلها، وعظم بالله سروره وأنسه، وهان عليه ماله ونفسه، وقلَّت هيبته للموت في الله ليقينه بالمعاد، ووثق بما ادخر لنفسه من الزاد، واجتهد في الله غاية الاجتهاد، وقرب من العفو عن كل من أساء إليه، ولم تنكصه الشبهات على عقبيه، ونظر الدنيا وأهلها بعين الزوال، وأيقين عنها بالارتحال، وأصبح للخيرات كلها أهلا، وللدين محلا ومعقلا، وروي بمعرفة الله من الضمأ، وظفر بالغنائم العظمى.
فإن قال قائل: فَلِمَ يعذب الله الجهال على مالم يعلموا، ولم يضطروا إليه فيعرفوا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إنما يعذبهم الله عز وجل على ترك طلب الدليل عليه، والتوصل بالفكر في صنعه إليه، والخوف منه والطمع فيما لديه، ألا ترى أنك لو خُوِّفت بشيء من المهالك وجب عليك أن تجتهد في طلب الأمان مما خفت، وأن تحرص في نفي ما كرهت، وأن لا توانا في ذلك، ولو جهلت حتى تعلم حقيقة ما به وُعدت، فعلى تفريطهم استحقوا العذاب، ولخلاف أدلتهم عدموا الصواب، ولو تمسكوا بسفن النجاة لما غرقوا في بحور العمى، ولو شربوا من علم آل نبيهم لشفوا من الظمأ، ولظفروا بالغنائم العظمى، ولأنارت قلوبهم لمرافقة الحكماء، ولكنهم اكتفوا بعلم أنفسهم، واستقلوا آل نبيهم.
فلا يبعد الله إلا من ظلم، وعلى نفسه السوء اجترم، فهذا سبب هلاك الجهال، وكثير من أهل النحلة الضلال، الذين شاهدناهم في عصرنا، ورأيناهم في دهرنا، فكم غريق شاهدناه!! وضال عمي رأيناه!! قد استعمل في أئمة الهدى سوء الظنون، ورضي بباطله عن الحق المبين، وأعرض عن الحكمة واليقين، يرى بجهله أنه قد هُدى إلى الصواب، وأنه أولى بالحق من ورثة الكتاب، ولو علم الله عز وجل أنه في ذلك المحل لجعله قدوة لعباده، وحجة على الخلق في بلاده، ولكن الله علم بعمى قلبه، فلم يجعل له حظا في وراثة كتابه.(1/220)

44 / 58
ع
En
A+
A-