وإن قلت: إنه يهويه في غير مكان، فهذا القول من مسائل المحال، ومما يتناقض من المقال، لأنك قلت: يهويه فأوجبت حركته وانحداره في مكان، إذ لا تكون الحركة إلا في أماكن الجولان، ثم نقضتَ قولك بقولك: في غير مكان!!
وإن قلت: إنه يهويه في مكان لا نهاية له، فهذا من أكبر التناقض والفساد، وأعظم الكذب والجحد والإلحاد، وذلك أنك قلت: يهويه في مكان لا نهاية له، وقد بينا حدث المكان وكليته، وأوضحنا نهايته وغايته، فكيف يكون المخلوق المحدَث قديما؟! أو كيف يكون الحد الموجود معدوما؟!
ودليل آخر
أن الله عز وجل لا يفعل فعلا إلا لحكمته، والله يتعالى عن أغاليط الملحدين، ويتنزه عن ألاعيب المفترين، ولولا المبالغة والنصفة للمناظر في الجدال، لما ذكرنا شيئا مما لا يليق بالله من المحال، لكن الواجب علينا أن نبين كذب الجاحدين، ونذب عن دين رب العالمين، إذ كانت في الله رغبتنا، ولدينه بالمجهود (1) نصرتنا، فنسأل الله عالم الغيب والشهادة، أن يجعل حياتنا في طاعته ما أحيانا، وأن يحشرنا مع الأبرار إذا توفانا، ونسأله عز وجل ألا يقبض أرواحنا إلا بعد رضائه عنا، وأن يجعل آخر ساعة من حياتنا في أعظم فروضه التي كلفنا، وألا يخرج أرواحنا من أجسادنا إلا في سبيله عند جهادنا، ونسأله أن يمتن (2) علينا ببلاغ مكروه أعدائه، والنصر للصادقين من أوليائه، وأن يجعل نصره (3) المحقين آخر أعمالنا، والثواب آخر آمالنا (4)، والشهادة آخر محنتنا، والمقابر أول راحتنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، ويثبت على دينه أقدامنا، وأن يجعل ذكره وتوحيده آخر كلامنا، والغضب له إن شاء الله آخر حقدنا، والرضا فيه آخر ودنا، والمحبة إن شاء الله آخر حبنا.
مسألة
__________
(1) في (أ): بالمحمود. مصحفة.
(2) في (ب): ببلاغ.
(3) سقط من (أ): نصره.
(4) سقط من (أ): والثواب آخر آمالنا.(1/211)


فإن قال بعض الملحدين، أو سأل عن رب العالمين، وقدرته في خلق المخلوقين، فقال (1): هل كان الله يقدر أن يخلق الهواء الذي هو محل الأشياء قبل أن يخلقه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن الله عز وجل لم يزل قادرا، وإنما تقع القدرة على المقدورات، وليس يقول أحد يعقل إن القدرة تقع على المحالات، وهذه مسألة محال، لا يفهمها أحد من الجهال، وذلك أنك جعلت الوقت قبل الهواء بقولك: يخلقه قبل أن يخلقه، لأنك إذا أردت يخلق الهواء قبل أن يخلقه، لم يَخلُ أن يخلقه قبل أن يخلقه بقليل أو كثير من الأوقات، ومقادير الأزمنة والساعات؟!
ومحال أن يكون الوقت قبل الهواء، لأنهما خلقا معا فكان الوقت هو (2) إقامة الهواء، وجعلت أنت أيها السائل صفة الهواء قبله، ومحال أن تكون الصفة قبل الموصوف. وإذا صح حدث الهواء بدلائل الحركة والسكون اللذين هما الأوقات، وهما حقيقة الأزمنة والساعات، فقد صح حدث العلل والمعلولات، لأن كل علة أو معلول، أو دقيق من الصنع أو جليل، لا يكون إلا جسما أو عرضا، ومتحركا (3) زائلا، أو ساكنا مقيما، مجتمعا أو مفترقا، والعرض لا يوجد إلا في جسم، والجسم محدث، وما لا يوجد إلا بوجود المحدثات فهو محدث مثلها، بل هو أضعف منها، إذ كانت هي توجد بأنفسها، والعرض لا يوجد إلا بوجودها، ولا يثبت إلا بعد عدمها.
__________
(1) سقط من (أ): فقال.
(2) سقط من (أ): هو.
(3) في (ب): متحركا.(1/212)


والدليل على التناهي والتحديد، فأقرب ما يكون من الحدث الموجود، وتفسير ذلك أن الله سبحانه خلق الأشياء كلها، وإذا صح حدث جميعا فقد تناهت بصحة ابتداع بدائعها، لأن ما صح ابتداعه، وبدء صنعه واختراعه، فقد تناهى حَدثُ أوله، وفرغ (1) الصانع من آخره، والفراغ نهاية (2)، وإنما هذا الدليل يدل على غاية الأجسام، وليس نريد بذلك انقطاع آخر الأزمان، وإنما تناهي الأعراض من الأوقات (3)، تناهي حدوث ساعات وبطلان ساعات، وليس ينقطع حدوثها أبد الأبد، ولا يكون لحدوثها غاية تنقطع ولا أمد، ولا يقطع كرور الساعات قاطع ولا يحد، وذلك (4) بمشيئة الواحد الأحد الجبار الفرد الصمد.
فإن قال قائل: كيف أوجبت دوام حدوث الساعات، وكرور الأزمنة والأوقات؟! وقد وعد الله سبحانه بالفناء في هذه الدنيا، وحكم للآخرة بالبقاء؟!!
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن الله عز وجل إنما أراد بقوله: ? ????? ?????? ??????? ??????? ?????????? ? [القصص:88]، الحيوان ولم يرد بذلك الأوقات والأزمان، وهذا فمعروف بيِّن غاية البيان، فيما نزل الله سبحانه من الفرقان، وذلك قوله سبحانه في ملكة سبأ وما أوتيت، وما حكى عز وجل مما ملكت: ? ????????????? ??? ????? ?????? ??????? ?????? ????????? ???? ? [النمل:23]، وقد علم بيقين أنها لم تملك كثيرا من الأشياء، من ذلك ملك سليمان وغيره، وإنما هذا القول خاص في بعض الأشياء دون بعضها.
مسألة
فإن قال قائل: أخبروني هل كان قبل الهواء شيء يعرف، أو يحد أو يوصف؟
__________
(1) في (ب): وفروغ.
(2) في (ب): وللفراغ نهاية وغاية.
(3) سقط من (ب): وإنما تناهي الأعراض من الأوقات.
(4) في (أ): ذلك.(1/213)


قيل له ولا قوة إلا بالله: قد قال غيرنا بذلك ولم يصح. فأما قولنا فإن الهواء أول ما خلق الله سبحانه، وسنبين فساد قولهم إن شاء الله وبطلانه، وذلك أنهم زعموا أن الله حكيم، والحكيم بزعمهم لا يخلق خلقا إلا ليُنتفع به، فزعموا أن الواجب على الحكيم أن يخلق عاقلا، وأن لا يخلق غيره من المنافع أولا.
فأما قولهم: إن الله حكيم فكذلك (1) نقول، وبذلك شهدت حِكَمُ العقول.
فأما قولهم: إن الواجب على الحكيم أن يخلق العاقل المنتفع، قبل أن يخلق له المنافع، فهذا والحمد لله غير واجب على الحكيم، وقد خلق الله السماوات العلا، وغيرهن من الأرضين السفلى، قبل أن يخلق أحدا من العقلاء، فلم يدخل على حكمته في ذلك تهجين، ولم يجر عليه فيما أبرم ضعف ولا توهيم، وما في تقديم المنافع قبل المنتفع من سقوط الحكمة؟!! وأي حكمة عند من عقل أحكم من تقديم النعمة؟!!
ألا ترى إلى ما قَدَّم الله سبحانه للأطفال قبل خلقهم، من المراضع التي جعلها لهم وصوَّرها في صدور أمهاتهم، أولا ترى ما في هذا من حكمة التدبير!! وبيان الصنع والنعمة والتقدير!! وفي بعض قولهم والحمد لله عندنا من الدلائل ما يكثر ويطيب، ويصح لكل عاقل لبيب، غير أنا نميل إلى اختصار الكلام، ولو رمنا شرح جميع الدلائل في صنع ذي الجلال والإكرام، لطال ذلك على أكثر الأنام (2)، ولعسر تناوله على جميع أهل الإسلام، ولكنا نلقي إن شاء الله تعالى من ذلك ما فيه كفاية، لمن كان له بنفسه عناية. فرحم الله عبدا نظر لنفسه، واجتهد في طلب الدليل على ربه، وأخذ في عمارة قلبه.
__________
(1) في (أ): وكذلك. وفي (ب): فذلك. ولفقت الكلمة منهما.
(2) في (أ): الأيام. مصحفة.(1/214)


وليعلم من أراد معرفة الله جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، أنه من صار إلى ذلك بنية صادقة، وعزيمة وطاعة متحققة، فهو من خاصة الله وأخلائه، وأحبابه وأوليائه وخلصائه (1) وكفى لعبد أن يكون له (2) وليا، وحبيبا إليه مرضيا، ومن كان كذلك، وعلى ما وصفنا من ذلك، فسيعلم إن شاء الله تعالى ما دام على ما وصفنا أن الله يمده من معرفته بأكثر مما يحتاج إليه، ويرزقه من يحث لا يحتسب ما كان متوكلا عليه، ويطلعه على كثير من الأسرار المكتومة، ولا يحجب (3) عنه حقيقة علم (4) معلومة، فلا تَزِلُّ قدمه مع ذلك عن الهدى، ولا تهلك إن شاء الله تعالى مع نور قلبه أبدا.
ألا ترى أن الحكيم منا لا يطلع عدوه على أسراره، ولا يخصه منه ببواطن أخباره، وإذا كان ذلك فينا موجودا وعند حكمائنا معايَنا مشهودا، وكان الله عز وجل أحكم منا، كان الواجب عليه أن يبعد من كان له عدوا، ولا يدفع عنه مكروها ولا سُوًّا، وكذلك أيضا عند حكمائنا أن الحكيم لا يخذل له أبدا وليا، ولا يكتمه من أسرار علمه شيا، ولا يقطع عنه أبدا خواص بشاراته، وتحف سرور كراماته، وإذا كان ذلك واجبا على حكمائنا، فهو على الله أوجب إذ هو أحكم منا.
- - -
باب الوحدانية
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهم السلام: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن الله سبحانه واحد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على وحدانية الله سبحانه تضاد الإثنين وتنافيهما.
فإن قال: وما أنكرت من إتفاقهما؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنهما لا يخلوان من أحد وجهين:
إما أن يكونا اتفقا من قبل ذلك، فإن كانا اتفقا من بعد ما تضادا، فاتفاقهما ذلك حاجة وضرورة وخوف، فالخائف المضطر المحتاج مخلوق ضعيف عاجز، والخالق فلا يكون بهذه الصفات موصوفا، ولا بمضادة الأمثال معروفا.
__________
(1) سقط من (ب): وخلصائه.
(2) في (ب): لله.
(3) في (أ): يحتجب.
(4) في (أ): علة.(1/215)

43 / 58
ع
En
A+
A-