فإن قلتم: إنه كان حيا سويا حكيما، مدبرا قويا عليما، فقد أقررتم بأنه مصنوع لما في الحيوان العاقل من آثار التدبير الذي وصفنا، والحكمة التي على الله قدمنا في أول كتابنا.
وإن قلتم: إن الجوهر في حال خلقه لنفسه وتحريكه لقوته، كان (1) ميتا غافلا، فهذا ما لا يقول (2) به المجانين لجهلهم، ولا يتكلمون به مع ذهاب عقولهم، لأن الميت لا يحكم ولا يدبر، ولا يحرك نفسه ولا يقدر، وإذا كان الحي السوي عاجزا عن تدبير نفسه وغيرها، فالميت أعجز عن إحياء نفسه وتدبيرها.
ومما يدل على فساد قول أصحاب الطبائع أن يقال لهم: لا تخلو هذه الطبائع من أحد وجهين:
إما أن تكون حية قديمة مدبِّرة، متقنة للصنع مقدِّرة.
وإما أن تكون مواتا مثل الجوهر الذي هو أصل الحق.
فإن كانت مواتا من جنس الهيولى فقد بان صنع الموات وتقديره، وبطلان حكمته وتدبيره، لأنه لا يعني (3) نفسه فضلا عن تدبيره غيره، بل هو من العجز والضعف فيما لا (4) يمنعه من الحدث، إذ لا قوة له ولا حياة، ولا إحسان له ولا إساءة، وكفى له بذلك عجزا وضعفا!!
__________
(1) سقط من (أ): كان.
(2) في (أ): ما يقول.
(3) في (أ): لا يقي.
(4) سقط من (أ): لا.(1/206)
وإن كانت العلة للخلق حيا قديما مدبرا، ليس له شبيه ولا مثيل، ولا نظير ولا عديل، فهذه صفات الخالق، والخالق ليس بعلة ولا معلول، بل هو(1) الله الرحمن الرحيم الذي عجز عن نعته الناعتون، وضل عن وصفه الواصفون، ولم يتوهمه المتوهمون، ولم تقع عليه الظنون، ولم تدركه الأبصار، ولم تحوه الأقطار، ولم تحل عليه الأفكار، بل عجزت عن اكتناهه القلوب، ولم تخف عليه العيوب، ولم تحده الجهات، ولم تنله الأدوات، وجل عن الصفات المحدثات، وعز عن النوم والسبات، وجل عن درك المدركات، ولم يؤده حفظ الأرض والسماوات، ولم يشتبه عليه شيء من الأصوات، ولم يمازج النور ولا الظلمات، ولم تجر عليه عوارض الساعات، ولم تنله صفات عواجز اللهوات، ولم يحتجب عن الأبصار بحجاب ولا سبب من الأسباب، مما يجول في خواطر الألباب، تعالى عن ذلك رب الأرباب، جعل الخلق ليُستدل به عليه، ويكون للمكلفين داعيا إليه، وتعبَّد المخلوقين، للفرق بين المطيعين والعاصيين، وأرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وأكمل بهم (2) الحجة على جميع العالمين، ? ???????????? ???? ?????? ???? ???????????? ?????????? ???? ????? ???? ????????????? ???????? ?????? ????????????? ??????? ???? ? [الأنفال:42].
- - -
باب الرد على الفضائية والدليل على حدث الفضاء وتهاييه(3)
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: إن سأل بعض الملحدين فقال: ما الدليل على حدث الهواء، المكان الذي فيه الأشياء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه ما شاهدنا فيه من لبثه وإقامته، وقلة زواله وحركته.
فإن قال: وما في سكونه ولبثه، من الدليل على تكوينه وحدثه؟
__________
(1) سقط من (أ): هو.
(2) في (أ): به. مصحفة.
(3) في (أ): ونهايته.(1/207)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أبين الأدلة وأوضحها، وأقواها في العقول وأصحها، وذلك أن (1) الإقامة لا تكون إلا على وجهين، وهما عند أهل العقول فغير منكَرَين:
فأحدهما: إقامة لا تحصى عددا أوقاتها، ولا تعتد لكثرة سنيها (2) وساعاتها.
والثانية: فإقامة كانت بعد العدم، وتلك فما لا يدعى أحد (3) أنها توصف بالقدم.
فأما ما كان من الإقامة بعد أن لم يكن، فاستغنينا عن الدليل على حدث ساعاته لكونها بعد العدم. وأما الإقامة التي هي ساعات لا تحصى عددها، ولا يدرك لتقدمته أمدها، فمثل إقامة الهواء، المكان الذي فيه الأشياء، ويستدل إن شاء الله على حدوثها، وبديء (4) كليتها ولبثها، وذلك أن ما مضى من إقامته (5) سنينه وشهوره وساعاته، لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون مضى كله.
وإما أن يكون مضى بعضه.
وإما أن يكون لم يمض منه كل ولا بعض.
فإن قلت: لم يمض شيء من دهوره وأزمنته، وما لا يحصى من إقامته، جحدته وجحدت (6) قدمه، وأوجبت حدوثه أو عدمه.
وإن قلت: بل مضى بعض الماضي المتقدم من الأيام، ناقضت بين ما نطقت به من الكلام، ولم تجد بين ما مضى فرقا عند جميع الأنام.
وإن قلت: بل عدم كل ما مضى من ذلك وخلا، وتضمنه العدم بعد حدوثه والفناء، أوجبت أنه محدث لحدوث أوله، وصحة (7) فنائه بأجمعه كله، إذ لم تكثر الإقامة إلا بعد قلة أولها، وبعد حدوثها وفنائها كلها، وإذا صح في المعقول أن لإقامته أولا وبديا، قد (8) تقدم وخلا، فهو بأيقن اليقين محدث لحدوث إقامته، إذ لم ينفك من الإقامة بكليته، وإذا صح أنه مقيم كله بذاته، وصح أنه محدث (9) بجميع صفاته، فقد صح بأبين البيان تناهيه وتحديده، وأن الله مخترعه ومربده.
__________
(1) سقط من (أ): أن.
(2) سقط من (ب): ولا تعتد لكثرة سنيها.
(3) سقط من (أ): أحد.
(4) في (أ): وتبدي.
(5) في (ب): إقامته.
(6) في (ب): أو جحدت.
(7) في (أ): لصحة.
(8) في (أ): فقد.
(9) في (أ): يحدث.(1/208)
فإن رجع إلى مكابرة عقله، وسأل عن المحال بفاحش جهله، فقال: وما أنكرت من أن يكون الهواء قديما قبل إقامته، أو أن يكون متحركا في حال العدم قبل سكونه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنه لا ينفك من الإقامة أصلا، لأنه إن تحرك فهو مقيم على الحركة، ولا بد لإقامة الحركة من كثرة أو قلة، ولا بد لها من تبعيض أو كلية، ولا بد إن شاء الله (1) من الكلام، والرد على من توهم حركته في سالف الأيام.
فنقول ولا قوة إلا بالله: إن قولك بحركته هو ما يدل على تناهيه وغاية، ويوضح ما قلنا به من حدوث أوليته، وذلك أنه لو كان قبل سكونه متحركا، ثم وجد بعد ذلك من الحركة منفكا، لكان لتلك الحركة آخر ومنقطع، وللسكون بدء ومبتدع، وإذا صح أن لحركته انقطاعا، ولسكونه حدثا وابتداعا، صح أن الحركة قد انقطعت كلها، وأبطل آخرها وأولها، وانتفى قدمها وأزلها.
فإن قال: هل للفضاء حدود محدود (2) يتناهى إليها وأماكن يعتمد عليها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم له حدود متناهية، وأطراف متباعدة مباينة.
وأما قولك: هل له أماكن؟ فيحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت به الجهات الست، اليمين والشمال والخلف والأمام والفوق والتحت.
وإما أن تكون أردت به غير ذلك مما سنذكره، ونشرحه إن شاء الله ونفسره.
فإن كنت أردت ما وصفنا من الجهات، فليس جهات غيره تحويه، ولا له مكان سواه يحل فيه، لأنه لو احتاج إلى مكان لاحتاج كل مكان إلى مكان، وهذا فيبطل غاية البطلان، لما دللنا عليه من حدوث الأمكنة، التي هي من الأفضاء والأهوية.
وإن أردت بالأمكنة التي ذكرت، وعنها في بدء الكلام سألت، أن الأجزاء الكثيرة منه أماكن لقليله (3) فقد أصبت، ولا اختلاف بين ذوي العقول فيما به نطقت، ألا ترى أن أطرافه تحوي وسطه، وأن أعلاه جهة لما دونه.
فإن قال: هل له أعلا وهل له أسفل وجوانب أم لا؟
__________
(1) في (أ): إن سألته. مصحفة.
(2) سقط من (أ): محدود.
(3) في (أ): كقلته. مصحة.(1/209)
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم له أعالٍ وأسافل، وله جوانب (1) وقوابل، وكل ما ذكرنا من ذلك فهو حدود وغايات، وليس لها بعد انقطاعه جهات.
فإن قال: وهل (2) بين تلك الحدود مغايرة تعرف، أو هل وراء الحدود شيء يتغاير (3) أو يوصف؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما الحدود في أنفسها فالأعالي من الجو مغاير لأسافله، والأوساط منه فغير قوابله.
وأما سؤالك عن وراء الحدود فليس لها وراء، ولا شيء يتوهم ولا يرى، وإنما المتوهَّم والمرئي (4) المعقول، هو المحدث المصوَّر المجعول.
فإن قال: فهل لو أرسل الله جسما ثقيلا وخلاه، وأهطبه إلى أسفل الجو وأهواه، أيخرج من حدود الجو إلى شيء سواه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لو كان ذلك من الله عز وجل، لم يمتنع أن يوسع الله له في المحل.
فإن قال: فما تقولون لو لم يرد في محل الجسم وأهمله، وخلاه ينحدر سفلا سفلا وأرسله؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لو كان الله عز وجل يريد المحال، ويعبث كما توهمتَ في الأعمال، لكان يهوي حتى يصل الحدود.
تم فيه كلام.
فإن قال: وما ذلك الكلام؟
(قيل له ولا قوة إلا بالله: إما أن يرسله ويخلق معه مكانا يهوي فيه) (5).
وإما أن يمسكه (6) في الحد الذي وصل إليه.
وإما أن يهويه في غير مكان.
وإما أن يرده من حيث أهواه.
وإما أن يهويه في مكان لا نهاية له.
وإما أن يفنيه إذا وصل الحد ويبطله.
فإن قال: إنه قد يمكن أن يخلق له مكانا، أو يحدث فيه فناء وبطلانا، أمكن ذلك في قدرة الرحمن، وذلك فما لا يختلف فيه عالمان ولا جاهلان.
وإن قلت: إنه قد يمكن أن يمسكه عند بلوغ حده، أو يمكن ما قلنا به من رده، أمكن ذلك في صنع الله وتقديره، ولم يُنكر ذلك من تدبيره.
__________
(1) في (ب): وجوانب.
(2) سقط من (أ): وهل.
(3) في (أ): للغائر. مصحفة.
(4) في (ب): الموهوم المرئي.
(5) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(6) في (أ): قيل: يمسكه.(1/210)