وكذلك يُنفى عن الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، درك الحواس والنفوس والأوهام، إذ لا يقع شيء منها إلا على جسم من الأجسام، في جهة من الجهات، أو على صفة من الصفات، فتبارك الله وتعالى عن الحس والتوجس، أو خاطر نفس من الأنفس، أو مشاكله شيء من أوصاف الموصوفين، أو محادة جنس من أجناس المصنوعين، إذاً لدخل عليه ما يدخل على شكله، ولجاز عليه ما يجوز على مثله، من الصفات اللازمة للأجسام (1)، المنفية عن ذي الجلال والإكرام، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وآله وسلم.
- - -
باب الدلالة على معرفة الله سبحانه
والرد على الملحدين الكفرة الجاحدين
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: إن سأل بعض الملحدين، أو الشاكِّين في جلال رب العالمين، أو قال بعض المتعنتين: فكيف تعبد ما (2) لا ترى، ولا يدرك بحاسة من الحواس؟ وما الدليل الذي دلك عليه؟ وما الدواعي التي دعتك إليه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن الدليل الذي دلنا على الله سيدنا ومولانا، والدواعي التي دعتنا إليه تبارك وتعالى، أنا وجدنا في الصنع آثار حكمة الصانع المتقن الحي العالم، وهو الله رب العالمين.
فإن قال: وما دلكم على بيان علم الصانع وحكمته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على بيان علم الصانع وحكمته، ما شاهدنا من جليل صنعه وفطرته، مما لو رمنا تعديده لما أحصيناه عددا، ولا أدركنا له أمدا، لعجزنا عن إحصاء آياته، والانحصار (3) عن تصنيف دلالالته (4).
__________
(1) في (أ): الأجسام.
(2) في (أ): من.
(3) في (أ): ولانحاز. مصحفة.
(4) في (أ): دلالته.(1/201)


من ذلك ما شاهدنا من جليل صنعه في الحيوانات، وما خلق سبحانه من الذكور والإناث، وأبان في ذلك من الجعل والإحداث، وما جعل بينهم من الأولاد الكثير، من نطف الماء الحقير، فعادوا كثيرا مذكورا، بعد أن كانوا قليلا محقورا، وما شق لهم سبحانه من السمع والأبصار، والأفئدة للتمييز والأفكار، والاجتلاب للمنافع والنفور عن المضار، وما خلق لنا سبحانه من الحواس الخمس، من العيان والسمع والذوق والشم واللمس، فجعل العيان لدرك الهيئات، وجعل السمع لدرك الأصوات، وجعل المشام لدرك الروائح المختلفات، وجعل الذوق لدرك المطعومات، وجعل اللمس لدرك أحوال المجسمات (1).
فكان ما عُويِنَ من اتصال التدبير، واطراد الحكمة والتقدير، دلالة على أحكم الحاكمين، واضطرارا إلى معرفة رب العالمين، ودليلا مبينا على فاسد قول الملحدين، ممن قال بالطبائع من الكفرة الجاحدين، أهل الحيرة المتلددين، إذ صح عند أهل العقول أن هذه العلل المواتات لا تعني (2) أنفسها، فضلا عن أن تعني تدبير غيرها، إذ لا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يصرف ولا يدبر إلا عليم، وسنزيد إن شاء الله بيانا، ونوضح له من ذلك هدى وبرهانا.
__________
(1) في (ب): المحسوسات.
(2) في (أ): تقي.(1/202)


ألا ترى أنه لا يجعل العين إلا عالم بما جعل من النظر، ولا (1) يجعل الأنثى إلا عالم بما جعل لها من الذكر، ولا يجعل العقول المميزة إلا عالم بما يحتاج إليه ذو الألباب، من الاجتلاب للمنافع والنفور عن المضار، ولا يجعل الأيدي والأرجل، وغيرها من العروق والعصب والمفاصل، إلا عالم بما سيكون من حركاتها، واجتلابها لمنافعها، ولا المراضع في أجساد الإناث، إلا عالم بما سيكون من أولادها قبل الإحداث، وما علم من حاجتها إلى ما جعل لها من الأغذية قبل كونها، فجعل تقدُّمَه غذاء الطفل بلطفه، لما علم من فاقته وضعفه، وألهمه الرضاع وجبره عليه، لما علم من حاجته إليه، ولولا هداية الله سبحانه للأطفال لهلكوا ودمروا.
ألا ترى إلى أطفال (2) البهائم عند خروجها من بطون أمهاتها، كيف تقصد مواضع أغذيتها ولذاتها، وما جعل الله سبحانه من قوام أرواحها وحياتها، ولا يجعل السمع إلا عالم بفاقة صاحبه إلى درك الأصوات، ولا يجعل الأبصار إلا عالم بفاقة أصحابها إلى درك (3) الهيئات، ولا يجعل المعايش والأرزاق إلا عالم بفاقة من جعلت له من الحيوانات، ولا يجعل في الجسد مداخل للأغذية ومخارج قبل كون ذلك إلا عالم بفاقة الإنسان إلى مداخل ذلك ومخارجه، إذ لا قوام له ولا ثبات للتدبير، إلا بما قدر الله سبحانه من التقدير، فلما استحال عند ذوي الألباب أن تكون العلل الميتة عالمة حية مدبِّرة، متقِنة للصنع مقدِّرة، علمنا عند ذلك بيقين أنه لا صانع حكيم، مدبر قدير عليم، إلا الله الحي القيوم.
- - -
باب الدلالة (4) على حدث الحيوانات ونهايتها
__________
(1) في (أ): فلا.
(2) في (أ): إظهار. مصحفة.
(3) سقط من (أ): درك.
(4) في (أ): الرد. مصحفة.(1/203)


قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهم السلام: فإن سأل سائل من الملحدين فقال: ما أنكرتم من أن تكون الحيوانات لم تزل على ما يرى تحدث نطفة من إنسان وإنسانا من نطفة، وبيضة من طائر وطائرا(1) من بيضة، إلى ما لا نهاية له، ليس لشيء من ذلك أول ولا يكون له انقضاء، ولا خالق للأشياء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك أشد الإنكار، وذلك أنا قدمنا لك أن في هذه الحيوانات آثار حكمة الحكيم، والحكمة (2) لا تهيأ إلا لعليم (3)، وما كان فيه آثار صنع الحكيم العالم فهو محدث مبتدع، ومنشأ بإذن الله مصطنع، وما صح إحكامه وتدبيره، وإنشاؤه وتقديره، فهو محدث مجعول، ومبتدأ مفعول (4)، وما صح حدثه واجتعاله، ونشأته وافتعاله، فقد صح تناهيه واعتماله.
ألا ترى أن في الحيوانات إبانة صنع الحكيم، والقديم لا يكون فيه آثار علم عليم، إذ القدم أغناه عن الفاقة إلى غيره، والأزل لا يوصف بحاجة إلى الحكيم وتدبيره، إذ هو ممتنع عن علمه وتقديره، فلما وجدنا الحيوانات ليست ممتنعة من التدبير، ولا خَلِيَّة من الإحكام والتصوير، علمنا أنها بخلاف ما ذكرتَ، وأنها غير ما وصفتَ، فقولك: ليس لشيء من ذلك أول هو من أحوال المحال، وأفسد الفساد وأضل الضلال، لأن هذه الحيوانات لا تخلو من أحد وجهين في حال قدمها، وما ادعيتَ من أزلها:
إما أن تكون على ما ترى من إحكامها وتكويرها، ونعيمها وحياتها وتعميرها.
وإما أن تكون ميتة جامدة، وساكنة لابثة هامدة.
فإن قلت: إنها كانت على ما ترى من كمالها، فذلك (5) دليل على حكمة خالقها وجاعلها.
__________
(1) في (أ)، (ب): وطائر. وما أثبت اجتهاد.
(2) سقط من (أ): والحكمة.
(3) في (ب): لعالم.
(4) في (أ): معقول. مصحفة.
(5) في (أ): وذلك.(1/204)


وإن قلت: إن أصول الحيوانات، كانت ميتة كسائر الجمادات، ففي(1) موتها والحمد لله دليل على صانعها ومميتها، والممتن عليها بعد إماتتها لحياتها، والمظهر لصنعه في إحكام أدواتها، والمنعم عليها بكفايتها، والعالم بحاجتها إلى جميع آلاتها، والمتفضل عليها لعلمه (2) بعافيتها.
- - -
باب الرد على الجوهرية
وزعم صنف من الملحدين وهم أصحاب الجوهر أن الهيولى - وهو أصل الحيوانات - جوهر قابل للأعراض، وأن معه قوة قديمة وهو قديم، فحرك القوة فحدث البرد فقبله، ثم حرك (3) القوة فحدث الحر فقبله، ثم قبل اليابس والرطوبة.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: فأي عاقل يجوز عليه قول من قال من الجوهرية، أن الطينة الميتة معها قوة هيولية أصلية، قديمة عنصرية، تدبر لها نفسها، حتى تصير مدركة حيوانية، بعد إن كانت ترابية مَوَاتية، وقد وضح في عقول ذوي الألباب، فساد ما (4) ادعوا من قوة التراب، وكيف يتوهم ذلك متوهم غوي؟! فضلا عن عاقل سوي، وأنى يكون ذلك من فعل التراب وهو موات ضعيف غافل؟! وقد عجز عن ذلك وهو حي حكيم سوي عاقل، وكيف يكون للطينة قوة هيولية، وليس لها إرادة ولا مشية، وهي إذ ذلك غافلة مَوَاتية؟! وإذا عجز الجوهر في حال بلوغه وكماله، عن تدبير صورته وأوصاله، فهو في حال موته ونقصانه، أحرى بالعجز من إحداث خلقه وتبيانه!! وإذا عجز الجوهر(5) في حال حياته وقوته، فهو أحرى بالعجز في حال موته وغفلته.
ودليل آخر
لا يخلو الجوهر الذي ادعيتم قوته وادعيتم خلقه لنفسه (6) من أحد وجهين:
إما أن يكون حيا حكيما عاقلا سويا، قادرا مدبرا قويا.
وإما أن يكون ميتا غافلا ضعيفا.
__________
(1) في (أ): فمع. مصحفة.
(2) في (أ): بعلمه. مصحفة.
(3) في (أ): حدثت.
(4) في (أ): من.
(5) سقط من (أ): الجوهر.
(6) سقط من (أ): لنفسه.(1/205)

41 / 58
ع
En
A+
A-