قيل له ولا قوة إلا بالله: أإن العلة لازمة بغير إرادة المعلول، وما كان بغير إرادته فلم يقصده، وما كان غير مقصود فلم يعمده، وما كان غير معتمد لم يخل من أن يكون قديما أو محدثا، فإن كان محدَثا فالمحدِث له لا يخلو من أن يكون عنه جاهلا مضطرا إلى الجهل، أو ربا عالما بالفعل، فإن كان هذا الصنع من علة بغير قصد ولا مشيئة فهذا محال، لأن العلة لا توجب حكمة بالغة، ولا نعمة سابغة، لأن العلة ضرورة بُنِي عليها المعلول، وليست توجب حكمة عند أهل العقول، وما كان مضطرا فهو ممنوع من الاختيار، وما كان ممنوعا ملجأ إلى الاضطرار، فصانعه بخلافه في جميع الأمور، بفضل الفاطر على المفطور، وأن هذا الصنع من رب عالم صنعه بعلمه واختياره، وأوجبه بقوته واقتداره، وجاد على البرية بإظهاره واقتهاره(1)، غير مضطر إليه، ولا مكرَه بالعلل عليه، فذلك مُجري العلل في المعلولات، وصانع جميع المصنوعات، وفاطر الأرض والسموات.
مسألة
فإن قال: فهل الإرادة الله نهاية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الإرادة هي الفعل وللفعل نهاية وغاية، والفرق بين (2) إرادة الله وإرادة خلقه أن إرادة المخلوقين خواطر، وإرادة الله سبحانه أجسام موجودة بصفاتها، وبدائع تعرف بجهاتها (3).
مسألة
فإن قال: ما الفرق بين فعل الله وفعل خلقه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الفرق بين ذلك أن فعل الله ابتداع واختراع، وفعل العباد حركات وسكون واعتقاد، وأفعال العباد بآلاتهم وهي أعراض متعلقة بأجسامهم، وأفعال الله غير (4) متعلقة بذاته.
مسألة
فإن قال: أخبرني كيف خلق الله الخلق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه المسألة تشتمل على وجوه كثيرة:
فمن ذلك أن يكون السائل أراد بقوله: كيف خلق؟ أي كيف أسعده الخلق وتهيأ له.
__________
(1) سقط من (أ): واقتهاره.
(2) في (أ): من. مصحفة.
(3) في (أ): بحياتها. مصحفة.
(4) سقط من (أ): غير.(1/191)
ومن ذلك: أن يكون أراد بقوله: هل خلقه بحيلة أو علة؟ فإن أراد أنه خلق الخلق بحيلة، فهذا محال لا يجوز عليه، ولا ينسبه عالم إليه.
وإن أراد بذلك أنه خلق بعلة فهذا محال، لأن العلة لا تخلو من صفات المحدثات، والمحدثات لا تخلق أمثالها، ولا توجب أشكالها، لأن المحدثات هي الأجسام والأعراض، والجسم لا يخلق جسما ولا يوجد لحما ولا دما.
وإن أراد كيف خلق؟ يريد بذلك أي كيف تهيأ له الخلق؟
فالجواب في ذلك: أن الخلق تهيأ له بالقدرة التي لا كيف لها.
مسألة
فإن قال: أخبرني أَعِلمُ الله كثير أم قليل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن كنت أردت علمه الذي نزل على أنبيائه ورسله فهو كثير، وإن أردت علمه الذي هو ذاته فليس يوصف بالكثرة فيكون عددا، ولا يوصف بالقلة وبالبعض أبدا، لأن العدد الكثير يدل على التغاير والأبعاض، وذلك فلا يوجد إلا في الأجسام والأعراض، وكذلك العدد القليل فهو منقوص، والمنقوص بالعلة مخصوص.
فإن قال: أمعلوم الله كثيرٌ أم قليل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: معلوم الله كل دقيق وجليل، وصغير وكبير، وممكن ومستحيل، ومعلومه ما قد كان وما سيكون وما لو كان كيف يكون وما لا يكون أنه لا يكون.
مسألة
فإن قال: هل يحصى تقدم الله قبل خلقه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال لا يجوز على الله سبحانه، لأن تقدم الله هو قدمه، وقدمه ذاته، وذاته لا توصف بقلة ولا كثرة ولا عدد، ولا أمد ولا حد، وقدم الله لا يفهم ولا يدرك ولا يعلم.
مسألة
فإن قال: لِمَ ذكَّرَ الله اسمه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: إن تذكير الاسم أولى من تأنيثه، وإنما الأصل في تذكير الاسم أن الشيء هو الموجود، والموجود مذكر أبدا، وإنما جعل التأنيث للمعنى.
مسألة
فإن قال: خلق الله الخلق من شيء أولا من شيء؟(1/192)
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الله عز وجل خلق الخلق من غير شيء، لأن القديم لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص، ولا يعدم بعد وجود كما لا يوجد بعد عدم، لأنه إن تغير لم يخل من أن يكون تغير كله أو بعضه، والكل والبعض لا يكون إلا متحركا أو ساكنا، والحركة والسكون محدثان، وكذلك لا يفنى إلا الكل أو البعض، والكل والبعض متناهيان مقطوعان، ومحدثان بعد العدم مصنوعان، لأن الكل محدود، والتبعيض عدد معدود، والاجتماع دليل على الجامع، والافتراق دليل على المفرِّق الصانع، فلو كان أصل الخلق قديما لم يخل من أن يكون خلق الخلق من كله أو بعضه، وفي (1) الكل والبعض نفي القدم، وحدوث العالم بعد العدم، لحدوث (2) الكل والبعض والاجتماع والافتراق والحركة والسكون، فلحدوث الأشياء تفرقت واجتمعت، ولتدبير مدبرِّها تصرَّفت وتنقلَّت، فالحمد لله الذي لا ينقص ولا يزيد، ولا يبطل ولا يبيد.
مسألة
فإن قال: لم خلق الله الخلق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن الله سبحانه خلق الخلق لإظهار حكمته.
مسألة
فإن قال: فَلِمَ أظهر الله حكمته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهار الحكمة حسن، وإظهار الحسن خير من تركه.
مسألة
فإن قال: فلم كلَّفهم؟
__________
(1) سقط من (ب): وفي.
(2) في (أ): بحدوث.(1/193)
قيل له ولا قوة إلا بالله: لإظهار الحسن من فعلهم، لأن الصبر على الكلفة حسن يستوجبون عليه الثواب، لأن التعبد داعٍ إلى الحكمة زاجر عن الجهل، وكلما دعا إلى الحكمة والرشاد، وزجر عن الغي والفساد، ففيه مصلحة لجميع العباد، مع ما في الصبر على المحن التي امتحن الله بها جميع المكلفين من المصلحة لجميع العالمين، والغبطة بما وعد الله من الثواب، والسرور بالنجاة من أليم العقاب، لأن الثواب بعد المحنة أكمل وأعظم للنعمة، وإنما ابتدأ الله الخلق بدار المحنة لإظهار فضلهم، ولعظيم (1) سرورهم بالنجاة بعد خوفهم، وأيضا فإن طول المحن والتجارب، أفضل من الغفلة عن العجائب، لفضل الحكمة والمعرفة على الجهل، ولما في التجارب من لقاح العقل.
مسألة
فإن قال: فما الدليل على صدق الرسل؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على صدقهم ما أتوا به من المعجزات، مثل: إحياء الموتى، وكلام البهائم والشجر، والرمي بالعصا فإذا هي حية تسعى، وفلق البحر، والسير فيه يبسا.
- - -
باب الرد على من جحد نبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الأنبياء وسلم تسليما.
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول اليهود فقال: وما أنكرتم من أن تكون النبوة لموسى عليه السلام من دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنهما نبيان جميعا لا فرق بينهما.
فإن قال: فبم صحت لك نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: بمثل ما صحت لك نبوة موسى.
فإن قال: صحت لي نبوة موسى بالمعجزات؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وكذلك صحت لنا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات.
فإن قال: وما علمكم بصدق الرواة؟
__________
(1) في (أ): وتعظيم.(1/194)
قيل له ولا قوة إلا بالله: كعلمك بصدق الرواة، ودلنا أيضا على صدقهم هذا القرآن الذي أتى به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فعجز الخلق أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، وفيه تصديق نبوة موسى وعيسى صلى الله عليهما وعلى الأنبياء أجمعين.
فإن قال: وكذلك صحت نبوة موسى بإجماعكم (1) معنا ونحن غير مجمعين معكم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامكم هذا فاسد محال، لأن إجماعنا معكم على نبوة موسى صلوات الله عليه طاعة منا لربنا، نستحق بها منه ثوابه، وجحدانكم لنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصية الله تستحقون بها منه عقابه، وكذلك الرد عليه إن كان نصرانيا أو مجوسيا.
- - -
باب الرد على من جحد الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى الحق، وأقر (2) بكلمة الصدق، وجحد الإمامة فهو مشرك، لأن الإمامة فرض من الله لا يسع أحد جهلها، لأن الحكيم لا يهمل خلقه مع ما يرى (3) من اختلافهم من الحجة على من عَنَدَ من الحق منهم، والهداية لمن طلب النجاة من أوليائه، والبيان لتلبيس أعدائه، وإلا فقد ساوا بين حقهم وباطلهم، وفي ذلك ما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية))، وقول الله سبحانه: ? ?????????? ?????? ???????? ????????? ??????? ????? ??? ? [الرعد:7]. فأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذر للعباد، وأن لكل قوم هاد إلى الحق في كل زمان، يوضح لهم ما التبس من الأديان، ويرد على من دان بغير دين الإسلام، ويوضح الحجة على جميع الأنام.
فإن قال: مَن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ زعمتم أن الأرض لا تخلو من الحجة؟
__________
(1) في (أ): بإجماعهم.
(2) في (أ): وأخر. مصحفة.
(3) في (أ): بدا.(1/195)