وإن كنت عنيت ذاته، فمحال أن يكون محادا للعالم فيكون مجزأ مبعضا، لأنه إذا كان فوق العالم فالذي يحاد العالم منه أسفل، وإذا كان تحت العالم فالذي يحاد العالم منه أعلا، وإذا كان محيطا فالعالم منه في كل أو بعض، والكل والبعض من أوصاف المخلوقين، وكذلك إذا كان في العالم كان العالم له محلا، ومسكنا وملجأ ومعقلا، وكان مكانه أكثر منه وكان محدودا، والمحدود لا بد له من محدِّد، لأنه إذا حاط به المكان فله غاية ومنقطع، وما كان له منقطع فله قاطع، لأن المقطوع مفروغ منه، والفراغ من فعل المحدِّد القاطع للحدود المناهي لها، وهو(1) الله محدِّد الأجسام وقاطعهان ومفتطرها وصانعها، ومفرقها وجامعها، وهذه صفات المخلوقين الموهومين (2)، ذوي الأماكن المدبَّرين، وربنا بخلاف خلقه، لأنه لا يقع عليه الفكر ولا يخطر على بال، لأنه ليس في مكان ولا بينه وبين خلقه مكان، لأن المكان لو كان بينه وبينهم لم يخل ذلك المكان من أن يقربه فيكون قريبا منهم، أو بعيدا فيبعده عنهم، ولو كان قريبا بذاته منهم لكان مقرَّبا لا بد له من مقرِّب قرَّبه!! ولو كان بعيدا بذاته عنهم لكان مبعَّدا لا بد له من مبعِّد أبَعَّدهَ (3).
ودليل آخر
أنه لو كان بينه وبين خلقه مسافة لم تخل تلك المسافة من أن تكون قاربت كله أو بعضه، وللكل والبعض نهاية وغاية، والله سبحانه ليس بذي كل ولا بعض، ولا طول ولا عرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا خلف ولا أمام، ولا لون ولا طعم ولا رائحة لا محسة، ولا افتراق ولا اجتماع، ولا حركة ولا سكون، لأن هذه الصفات لا تكون إلا في الأجسام التي ذكرنا، والله خالقها وجاعلها.
- - -
باب الرد على من أنكر قول آل محمد
صلوات الله عليهم في أن الله شيء لا كالأشياء
__________
(1) في (أ): للمحدود المناهي وهو.
(2) في (أ): الموهمين.
(3) في (أ): أبعده.(1/186)


قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: فإن قال قائل: بم (1) زعمت أن الله شيء ولم تقل مشيء الشيء، وقد علمت أنا لم نجد شيئا إلا جسما، فهل نفيت عن ذلك صفات الأجسام؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن قولنا: شيء إثبات موجود ونفي معدوم، وقولنا: لا كالأشياء نفي التشبيه، وذلك قول الله عز وجل: ? ????? ?????? ??????? ??????????? ????????????? ????? ??????? ???????? ? [الأنعام:19]، فسمى نفسه شيئا، ثم قال: ? ??????? ??????????? ???????? ? [الشورى:11]. فحكينا من قوله ما قال، ونسبنا إليه سبحانه ما نسب إلى نفسه، ونفينا عنه ما نفى عن نفسه من شبه خلقه.
مسألة
فإن قال: أهو عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم هو سبحانه عالم.
فإن قال: أَعِلْمُه هو أم عِلمُه غيره؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن علمه وقدرته صفتان (2)، من صفات ذاته، هما الذات والذات هما، وهو العالم بنفسه، القادر بنفسه، الحي بنفسه، لا بحياة سواه، ولا علم ولا قدرة غيره (3).
مسألة
فإن قال: ربكم مريد؟
قيل له: نعم.
فإن قال: ما إرادته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: فعله للشيء فقط.
مسألة
فإن قال: ربكم يقدر أن يريد أو يريد أن يقدر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة مغالطة، منها ما يصح ومنها ما يفسد.
فأما الصحيح فقولك: يقدر أن يريد، لأن الإرادة فعله وهو لعمري قادر على الأفعال.
وأما الفاسد المحال فقولك: يريد أن يقدر، فكأنك قلت يفعل القدرة وهو لم يزل قادرا، فجعلت القدرة من المفعولات ففسد القول (4) واستحال.
مسألة
فإن قال: ربكم يعلم أن يقدر أو يقدر أن يعلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: ربنا يعلم أنه يقدر.
وأما قولك: يقدر أن يعلم ففاسد محال، لأن القدرة لا تقع إلا على المقدورات، وليس علم الله بمقدور فتقع عليه القدرة.
مسألة
__________
(1) في (ب): لِمَ.
(2) في (أ): صفات.
(3) سقط من (ب): ولا علم ولا قدرة غيره.
(4) سقط من (أ): القول.(1/187)


فإن قال: ما دليلك على أن الله حي؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنا نظرنا إلى الخلق، فإذا هو متصل تام محكم متقن، فعلمنا أنه صنع حكيم حي، لأن الميت لا يقي (1) نفسه فضلا عن غيره، ومحال تدبير من هو ميت، والحكيم لا يكون إلا حيا، والميت لا علم له ولا قدرة ولا إرادة ولا حكمة.
مسألة
فإن قال: فما دليلك على أنه قادر؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أبين الأدلة وأوضحها، وذلك لأن العاجز لا يقدر على فعل شيء أصلا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!
مسألة
فإن قال: فما دليلك على أنه عالم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لولا أنه عالم لما اهتدى خلق الأشياء من غير شيء، بل لعلمه بها قبل تكوينه لها خلقها وفطرها واخترعها بغير مثال احتذى عليه، وكيف لا يعلم المبتدِع ما ابتدع، والحكيم الصانع ما صنع؟!!
مسألة
فإن قال: هل له حد أو نهاية أو أمد أو غاية (2)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: تعالى الله خالقنا عن أن يكون له حد أو نهاية، أو أمد أو غاية، لأن كل محدود لا بد له من محدِّد أحاط به، وكل ذي عدد لا بد له من معدِّد، وربنا ليس بذي حد به يحد، ولا بذي أجزاء تعد.
مسألة
فإن قال: فهل يُدرك بحس أو نفس؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال لا يجوز على الله، لأن النفس لا تدرك إلا جسما أو عرضا، وكذلك درك الحس أيضا، والجسم والعرض محدثان، ومدبَّران بعد العدم مصنوعان.
- - -
باب الحقائق
فإن قال: فما حقيقته في ذاته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما أن تكون أردت حقيقة ذاته.
وإما أن تكون أردت الدلالة على وجوده.
__________
(1) في (أ): لا يعني.
(2) في (ب): حد وغاية، وأمد ونهاية. وسقط من (أ): هل.(1/188)


فإن كنت أردت ذاته فحقيقته ذاته وذاته حقيقته، وإن كنت أردت الدلالة على حقيقته وصنعه (1)، فالجواب في ذلك أن وجود خلقه وصنعه يدل على أنه شيء حق، وليس عندنا من الجواب في المسألة إن ما ذكرت لك، إذ كل شيء موجود مدرك محسوس تعرف حقيقته بذاته، والله لا يعرف إلا بما أظهر من حكمته، وحقيقته قدمه وهو حقيقة ذاته، وكذلك غير القدم من صفاته كعلمه وقدرته وحياته.
مسألة
فإن قال: فما هو؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل ثلاثة أوجه:
إما أن تكون سألت عن اسمه.
وإما أن تكون سألت عن صفته.
وإما أن تكون سألت عن ذاته.
فإن كنت سألت عن اسمه فهو الله الرحمن الرحيم، وإن كنت سألت عن صفته فهو الواحد القديم القدير العليم، وإن كنت سألت عن ذاته فهو الذي ليس كمثله شيء.
مسألة عن الإرادة
فإن قال: أخبرونا لم (2) يزل الله مريدا أم إرادته حدثت ولم تكن أزلية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أن إرادة الله سبحانه هي فعله.
وأما إرادته لطاعة عباده فهي أمره لهم فقط، وكذلك سخطه لمعصيتهم فهو نهيه لهم، والله سبحانه لم يزل عالما بجميع فعله، عالما بجميع ما سيريد تكوينه، وإنما الذي يريد بلا علم تقدم، ويضمر بغير تكوين هو الإنسان الجاهل، الجائل الفكر الذي تحدث له النية والضمير والإرادة بإضمار القلب والطوية، ولو كانت إرادته قبل فعله لكانت إرادته كإرادة المخلوقين، ولكانت عرضا في (3) جسم، ولو كان جسما لأشبه الأجسام. وإنما إرادته فعله وفعله مراده، وليس ثَمَّ إرادة غير المراد، فيكون مشابها للعباد.
__________
(1) سقط من (أ): وصنعه.
(2) في (أ): وإن قال: لم.
(3) في (أ)، (ب): من. وما أثبت اجتهاد.(1/189)


ومحبة الله هي: رضاه ورضاه محبته، ومحبته ثوابه، وبغضه غضبه، وغضبه عقابه، وكراهته نهيه، لا غير ذلك، وهذه صفات تكون لله فعلا، وتكون للمخلوقين بخلاف ما هي لله أعراض علل في المعلولات، لأن إرادة المخلوقين إهتشاش قلوبهم، ومحبة نفوسهم قبل فعلهم، وكراهتهم ومحبتهم مختلجان (1) في صدورهم، وحاش لله أن يوصف بصفات خلقه، والشهوة والكراهة بغيتان ضروريتان، وحاش الله (2) أن يكون مضطرا إلى شيء أو مبنيا عليه.
مسألة
فإن قال: فما دَعَاه إلى أن يخلق؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا فاسد محال، لا يجوز على الله سبحانه، لأنه لم يزل عالما بلا داع خطر، لأن الخاطر الداعي من صفات الجهال المخلوقين، الذين يذكرون بعد (3) النسيان، والناسي لا بد له من مانع منعه، وهو الله الذي فطره على الضعف وصنعه.
مسألة
فإن قال: فأيهما أكثر، إقامته قبل أن يخلق، أم إقامته بعد أن خلق؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة محال، لا يصح بها اعتقاد ولا مقال، لأن الإقامة من صفات المخلوقين، وليست من صفات رب العالمين، والإقامة فإنما هي الحركة (4) والسكون.
مسألة
فإن قال: أخبرني عن الله لِمَ لَمْ يخلق خلقه قبل أن يخلقهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه مسألة تستحيل، ولا تثبت عند أحد من أهل العقول، لأنك قلت: يخلق الخلق قبل أن يخلقه، فأوجبت أن قبل الخلق زمانا مقدما، والله خالق الزمان والمكان، والحين والأوان، وهو الأول الذي لا قبل لأوليته ولا كيف لأزليته، كان في حال القدم قبل (5) بريته، ولا عقل ولا معقول سواه، ولم يكن معه أزمنة ولا شهور ولا ساعات، ولا أمكنة ولا أوقات، ولا علم ولا معلوم، ولا فهم ولا مفهوم، ولا وهم ولا موهوم.
مسألة
فإن قال: خلق الله بعلة (6) أو بقصد وإرادة؟
__________
(1) في (أ): مختدعان. مصحفة.
(2) في (أ): لله.
(3) سقط من (أ): بعد.
(4) في (أ): الحركات.
(5) سقط من (أ): قبل.
(6) في (أ): بعلم. مصحفة.(1/190)

38 / 58
ع
En
A+
A-