أنه لو كان يحدث بلا محدث لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم، ولم يكن بالحدوث أولى منه بالقدم (1).
ودليل آخر
أنه لو كان كما زعمت لم يعدم من أن (2) يكون حدث لعلة فهذا محال، لأن العلل ليست بحكيمة مدبِّرة، ولا بحية مقدِّرة، كما قد ذكرنا في أول الكتاب، وكذلك أيضا فقد ذكرنا ذلك في كتاب التناهي والتحديد، في بيان صنع الله في العلل وغيرها، فلما استحال هذان الوجهان صح الوجه الثالث وهو صنع الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، وذلك أنا نظرنا إلى النجوم والشمس والقمر فإذا هي مسخرات، مدبَّرات مقدَّرات، فعلمنا أنه لا بد لكل مسخَّر كان معدوم التسخير من مسخِّر، ولا بد لكل تقدير كان بعد عدمه من مقدِّر، ولكل مدبَّر كان بعد عدمه من مدبِّر، وذلك أنا وجدنا لحركتها غاية تدل على أوليتها، ووجدنا فيها تصويرا وإحكاما يدل على محكمها ومصورها، ووجدنا لها أقدارا تدل على مقدِّرها، ووجدناها متفاضلة فدل تفاضلها واختلافها على المفضِّل بينها، ووجدنا فيها دلائلا على منافع العباد، وقدوة للخلق في جميع البلاد، وهداية في ظلمات البر والبحر، ومصالح لهم في الليل والنهار، فدل ذلك على أنها نعمة، والنعمة لا تكون إلا من الواحد القهار، لما جعل(3) فيها من الزينة والأنوار، وأقام بمنفعة ذلك من المعايش والإبصار.
ودليل آخر
أن مكان هذه النجوم والشمس والقمر ضد لها منافر، مفارق مباين (4) غير موافق ولا مؤالف، فلما نظرنا التأليف بين الضدين، دلنا ذلك على حدثهما جميعا، وعلى أن لهما صانعا ألف بينهما (5) بلطفه وقدرته، وتدبيره وإظهاره لحكمته (6).
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون ثبتت بطباع لها من غير عمد يعمدها؟
__________
(1) في (أ): بالعدم.
(2) في (أ): زعمت ثم بعد أن. مصحفة.
(3) في (أ): القهار وجعل.
(4) في (أ): ومفار ومباين. مصحفة.
(5) في (أ): لها صانعا ألف بينها.
(6) في (ب): وأصل هذه بحكمته. مصحفة.(1/176)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن من طباعها الثقل، لأن أفولها وطلوعها وهويها دليل على قوتها (1) وثقلها، والثقل لا يستقر إلى على معتمَد، فإذا لم نر لها عمدا علمنا بيقين، أنها ثبتت (2) بلطف مدبرها.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الهواء يحملها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن من طبع الهواء الضعف عن أن يحمل حبة الخردل فما دونها!! فكيف يحمل السموات والنجوم والماء وجبال البرد؟! لأن من طبعها الثقل ومن طبعه الضعف.
ألا ترى السحاب ليس بينه وبين الماء والبرد مشاكله، وكذلك الهواء لا يشاكل الماء، لأن من طبع الهواء الضعف، فلما وجدنا الماء والسحاب مجتمعين علمنا بيقين أن ذلك الاجتماع ليس من فعلهما، وأن الجامع بينهما غيرهما، لأن من طبع الهواء الضعف، ومن طبع السحاب الخفة والطيشان والضعف، فلما وجدنا الماء والسحاب مجتمعين علمنا بيقين أن ذلك الاجتماع ليس من فعلهما وأن الجامع بنيهما غيرهما، لأن من شأن السحاب الخفيف أن يعلو صعدا، ومن شأن الماء أن ينحدر سفلا، فيجب على هذه الطبائع ألا يجتمعا طرفة عين، فأي حديث أعجب من اجتماع هذه الأضداد التي من شأنها الافتراق؟ وليس من طبعها الاجتماع والالتزاق.
ودليل آخر
أن الهواء لو كان يعمد النجوم لما أسلمها إلى الأفول والطلوع، ولو جاز ذلك في أقل قليل إسلامه لها من حيِّز إلى حَيِّز، لما كان أي الحيزين أولى بإسلامهما من الآخر، لأن الهواء لو كان يعمدها عند طلوعها لوجب أن يعمدها أيضا عند أفولها، ولو كان الهواء هو الذي يسقطها عند غروبها لأسقطها في وسطه قبل مغيبها، فلما وجدناها لا تسقط عند طلوعها علمنا أن لها مسخرا أطلعها، فلما استقلت في وسط الجو ولم يُسلِمْها إلى الهبوط علمنا أن غيره أمسكها لأنه يضعف عن حملها (3).
- - -
باب الرد على الثنوية عبدة النور والظلمة
__________
(1) في (أ): كونها.
(2) في (أ): تثبت.
(3) سقط من (أ): عن حملها.(1/177)
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول الثنوية فقال: وما أنكرتم من أن تكون هذه الأشياء أحدثها اثنان سميعان بصيران عالمان، فالنور يخلق كل خير، والظلمة تخلق كل شر ومكروه وضير(1)، وليس ذلك باختيار ولكن ذلك بطباع أزلية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من وجوه شتى أولها:
أنك لا تخلو في قولك هذا من أحد وجهين:
إما أن تكون قُلتَه تظننا وتوهما.
وإما أن تكون قُلتَه بدرك ويقين.
فإن قلت: إنك أدركتهما رأي العين يخلقان أَحَلْتَ.
وإن قلت: بل ظننت وتوهمت، فقد قال الله عز وجل: ? ?????? ?????????? ??? ????????? ???? ????????? ???????????? ? [يونس:36].
وإن قال: - وهو قائل لا شك - حجتي على ذلك أني نظرت في العالم خيرا وشرا، فقضيت على أن الخير والشر من أصلين (2)، أحدهما فاعل خيرا، والآخر فاعل شرا، ولا يمكن أن يأتي بالخير من يأتي بالشر، ولا يمكن أن يأتي بالشر من يأتي بالخير؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: قولك هذا تظنن (3) وتوهم، ويستحيل من وجوه شتى أولها:
أنا وجدنا فاعل الخير والشر واحدا، ولو كان كما توهمت لما أحسن محسن، ولا اعتذر مذنب، ولا تاب مخطئ، إذ زعمت أنه لا يأتي بالخير مسيء أبدا.
ودليل آخر
أن الخلق تام متقن محكم، وفيه إبانة صنع محدِثه، ومحال أن تكون الحكمة من علة من العلل الطبيعية.
ودليل آخر
إما أن يكونا (4) عند تمازجهما أحدثا (5) الخلق بإرادة منهما.
(وإما أن يكون الخلق حدث بغير إرادتهما)(6).
وإما أن يكون حدث بطبائع (7) تمازجهما.
__________
(1) في (أ): وضر.
(2) في (ب): والشر أصلان.
(3) في (أ): تظنين.
(4) في (أ): يكون.
(5) في (أ): أحدث.
(6) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(7) في (ب): بطباع.(1/178)
فإن قلت: إن الخلق حدث بإرادتهما أَحَلتَ، لأنك وصفتهما بصفات تدل على حدثهما، وذلك أنك زعمت أن لكل واحد منهما خمس حواس مختلفات، ولا بد لما اختلف من الأشياء من صانع خالف بين أجناسه لإظهار حكمته، فجعل كل واحد (1) يصلح لخلاف ما يصلح له الآخر، لفاقته إلى ما جعل له صانعه، وإذا كان في الشيء من الأشياء ما يدل على حدثه بطل قدمه، وإذا بطل قدمه لم يكن بالفعل أولى من غيره، ولزمه إذ ذلك ما يلزم مثله من العجز عن (2) أن يصنع!!!
وإن قلت: إن الخلق حدث بطباع تمازجهما أحلت، لأن المصنوع المطبوع لا تعدوه طبيعته، والاجتماع هو غرض لا يتعداهما إلى غيرهما، كما أن افتراقهما لا يوجب حكمة في سواهما.
ودليل آخر
أنهما إذا كانا (3) من التصوير على ما ذكرت، وفي تمام الحواس على ما وصفت، فقد يجب شكر المنعم بكمال أدواتهما، والمتفضل بتمام جوارحهما، إذ جعل لهما حواسا خمسا، عيانا وسمعا وذوقا وشما ولمسا، وخالف بين علمهما وحواسهما، وغاير بين صفات أجناسهما.
ودليل آخر
يقال لهم: ما العلة التي أوجبت تمازجهما بعد مُباينة كل واحد لضده؟! إذ زعمتم أنهما تمازجا بعد مباينة كل واحد لصاحبه!!
فإن قلتم: إن الظلمة بغت على النور، أوجبتم حدث حركة لاقَتْ بينهما، وإذا حدث بينهما حادث فهما على حالين محدثين، وهما الحركة والسكون، وما كان من الأشياء متحركا أو ساكنا فهو مضطر إلى الحركة والسكون، والمضطر لا بد له من صانع اضطره إلى الحوادث وبناه عليها.
ودليل آخر
قالوا: إنهما تمازج بعضهما ولا نهاية لما بقي منهما، وإذا كان لهما بعض تمازج بحركتهما فالذي بقي منهما، لا يخلو من أن يكون: ساكنا كله فينتظمه السكون ويتعلق بجميعه، أو يكون غير ساكن ولا متحرك فيكون عدما.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): حكمته فكل. وفي (أ)، (ب): واحدة. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) في (ب): على. مصحفة.
(3) في (أ): إذا كان. وفي (ب): إما كان. ولفقت النص منهما.(1/179)
لا يخلو (1) من أن يكونا ميتين أو حيين، فإن كانا ميتين فقد لا بسهما الموت وحواهما، وإن كانا حيين فقد حوتهما الأرواح وناهتهما.
ودليل آخر
لا يخلو كل واحد منهما من أن يكون مجتمعا أو مفترقا، والافتراق يوجب التفصيل (2)، والاجتماع يوجب التوصيل، والتوصيل والتفصيل لا يكونان إلا من صانع موصِّل مفصِّل.
ودليل آخر
قال بعضهم: إنهما جنسان فالنور بياض كله، والظلمة سواد كلها، وللكل نهاية وغاية، لأن البياض قد لبس النور كله ولا بد لكل لباس من مُلبِس، وكذلك القول في السواد إنه قد لبس الظلمة كلها، وللكل نهاية وغاية، وإذا حواهما لباسهما فقد حدَّهما وتضمنهما، والسواد والبياض فهما عرضان صفتان لغيرهما، والخالق ليس بعرض ولا جسم، لأن الجسم فيه إبانة صنع صانعه، والعرض صفة له، لا إحسان له ولا إساءة، ولا قوة له ولا عقل ولا حياة ولا فعل من الأفعال، فكفى لعمري بشيء هذه صفته عجزا وضعفا!!!
ودليل آخر
أن البياض والسواد لا بد لهما من صانع خالف بين أجناسهما، لأن القديم لا يخالف القديم، والمحدثات أضداد لا بد لها من مضاد ضاد بينهما بقدرته ليُعلم أن لا ضد له.
باب الرد على المتجاهلة
قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: فإن رجع إلى قول المتجاهلة فقال: وما أنكرت من أن تكون هذه الأشياء لا تصح علم أحدها، لأن النائم لا يصح منامه إذا استيقظ، والظل في الماء والمراية لا تصح إذا طلب، فلعل هذه الأشياء التي تذكرون (3) ستطل كما بطل غيرها؟
__________
(1) سقط من (ب): لا يخلو.
(2) في (أ): التوصل. مصحفة.
(3) في (ب): يدركون.(1/180)