قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من وجوه شتى أحدها:
أن قولك ظن بغير يقين شاهدته، فأرنا من ذلك ما رأيت، وأوجدنا من ذلك ما وجدت.
فإن قال: - وهو قائل لا شك - حجتنا على ذلك أنا وجدنا الأجسام لا تنفك من هذه الطبائع الأربع فقضينا (1) عليها بأنها دبرتها، إذ لم تنفك (منها.
قيل له ولاقوة إلا بالله: وكذلك أيضا قد وجدناها لا تنفك من) (2) الألوان من الحمرة والخضرة والبياض والصفرة وغير ذلك، فلو وجب أن يكون ما ادعيتم، لكان أيضا ذلك في القياس على ما ذكرتم.
ودليل آخر
أنا شاهدنا هذه الطبائع في الأجسام بعد إكمال الله لها غير فاعلة فعلا مما(3) ادعيتم.
ودليل آخر
أنا وجدنا في الصور التأليف والتركيب، وآثار صنع الحكيم المؤلِّف المركِّب، ومحال أن تكون العلل مؤلِّفة أو مركِّبة أو حكيمة عالمة (4)، إذ هي عن ذلك محجوبة، لا إحسان(5) لها، ولا إساءة ولا عقول لها تقي (6) بها أنفسها، فكيف تدبر غيرها؟!!
ودليل آخر
أن هذه الطبائع لا تخلو من أحد وجهين عند اجتماعها:
إما أن تكون جمعت أنفسها.
وإما أن تكون مجموعة بأمر صانعها.
فإن قلت: إنها جمعت بين أنفسها، فكيف تجمع بين أنفسها وهي أعراض لا توجد منفردة (7) بذواتها، ولو كانت منفردة بذواتها (8)، موجودة بأعيانها، لاستحال ذلك ولما أمكن أبدا (9)، إذ المفرِّق الجامع لا يكون إلا حيا (10).
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): وقضينا.
(2) سقط من (أ): ما بين القوسين.
(3) في (أ): فما. مصحفة.
(4) في (أ): عالمية. وفي (ب): حكمة عالمة.
(5) في (أ): الأجسام. مصحفة.
(6) في (ب): تعنى. مصحفة.
(7) في (أ): متعددة. مصحفة.
(8) سقط من (أ): ولو كانت منفردة بذواتها.
(9) سقط من (أ): أبدا.
(10) في (أ): جزء. مصحفة.(1/171)
أن الفاعل لا يكون إلا (1) موجودا قبل المفعول، وقد وجدنا هذه الطبائع مع وجود المحدثات (2)، فعلمنا أن حال المحدثات سواء، إذ وجدن في حال واحد وَعَدمنَ في حال واحد، لأن الطبيعة لا توجد قبل الجسم، والجسم لا يوجد قبل الطبيعة، والطبيعة فإنما هي عرض، والأعراض على وجهين:
فمنها: أعراض حادثة بعد حدوث الجسم.
ومنها: أعراض مع الجسم لم تسبقه ولم يسبقها.
والأعراض فلا تسبق الأجسام أصلا، ولا تنفصل بأعيانها أبدا.
فأما الأعراض التي حدثت مع الجسم فمثل الطبائع الأربع: الحر والبرد واليبس والرطوبة، ومثل الاجتماع والطول والعرض والحركة والسكون، لأنه قد يستحيل أن يوجد جسم ليس برطب ولا يابس، وكذلك يستحيل أن يوجد جسم ليس بمتحرك ولا ساكن، ويستحيل أن يوجد جسم ليس بحار ولا بارد، فمن هاهنا قلنا: إن هذه الطبائع أصلية لم تحدث بعد الجسم، ولها علل تنقلٌ (3) وتصرفٌ يطول شرحها.
وأما العلل التي يمكن أن تحدث بعد حدوث الجسم فمثل أن يكون ساكنا فيتحرك فتحدث الحركة، أو يكون الجسم مجتمعا فيفترق فيحدث الافتراق، أو يكون طويلا فيقصر(4) فيحدث القصر، ومثل الأعراض الحادثة في الحيوان بعد عدمها.
- - -
باب الرد على عبدة النجوم
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي عليهما جميعا السلام(5): فإن رجع إلى قول أصحاب النجوم فقال: وما أنكرتم من أن تكون هذه الأشياء تصورت بدور(6) الفلك وحركات النجوم، والفلك متصل بالعالم كاتصال خيوط الإبريسم بآلة الحوك، فإذا دار الفلك على المصنوع بسعدٍ تمَّ وصلح، وإن دار عليه بنحس فسد ولم (7) يتم، كما إذا حرك الصانع آلة الحوك الملائمة السدى واللحام، أظهر في الحوك ما أراد من صورة، إما رأس طائر وإما جناحه؟
__________
(1) سقط من (أ): إلا.
(2) في (أ): بوجود المحدث.
(3) في (أ): وتبقى.
(4) في (أ): فينقص. مصحفة.
(5) في (ب): صلوات الله عليهما.
(6) في (أ): لدور.
(7) في (أ): ولا.(1/172)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنك قايست ما لا يقاس، لأنك قايست اتصال خيوط الإبريسم(1) بآلة الحوك وتحريك الصانع لها، وإظهار ما يريد تحريكه الفلك والمخلوقين، فهذا مالا ينقاس عند ذوي الألباب، لأن الخيوط متصلة بآلة الحوك غير مباينة لها، والنجوم مباينة (2) للمخلوقين، وغير متصلة بأجسامهم، وحركتها غير متصلة بهم، إذ كل منهم منفرد بذاته، ولو أحدثت حركة النجوم في العالم حكمة، لجاز أن تحدث من تحريك الصانع لجوارحه في الحوك صورة مختلفة بغير ملامسة، لأنه إذا جاز عندك أن يتحرك النجم بنفسه فتفعل(3) حركته في العالم صورا، جاز لحائك الإبريسم وهو بعيد عنها، كما جاز للنجم ذلك في (4) الصور وهو باين منها، فهذا وجه (5) يبطل فيه قياسهم.
والوجه الآخر: أنك زعمت أن الفلك إن دار على المصنوع بنحس فسد ولم يتم، وإن دار عليه بسعد تمَّ وصلح ولم يفسد، ووجدنا الأمر بخلاف ما ذكرت، وذلك أنا نظرنا إلى الأحمال أحمال الإناث (6) من الإنس والبهائم والطير والأشجار وما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الحيوان (7)، ربما لم يتم وربما تم في حال دور السعود التي زعمتم أنه يتم في حال دورها، ووجدناه ربما تم وربما لم يتم في حال دور النحوس التي زعمتم أنه لا يتم فيها، وما كان من ذلك فبإذن الله وتقديره، مما سنذكره إن شاء الله تعالى، من بيان صنع الله فيهما، وفساد قول من زعم أنها قديمة الحركات إلى ما لا نهاية له.
والوجه الثالث: أنها في أنفسها مخلوقة أبان الله صنعه في إيجاده إياها.
فإن قال: - وهو قائل لا شك - وما ذلك على أنها مخلوقة؟
__________
(1) سقط من (أ): الإبريسم. والإبريسم هو الحرير.
(2) سقط من (أ): لها، والنجوم مباينة.
(3) في (أ)، (ب): فيفعل. ولعل الصواب ما أثبت.
(4) سقط من (أ): في.
(5) في (أ): أوجه. مصحفة.
(6) في (ب): الانبات. مصحفة.
(7) في (أ): الحيوانات.(1/173)
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على ذلك إبانة صنعه فيها.
فإن قال: وما إبانة صنعه فيها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: وجوه شتى:
أول ذلك تصويرها وإحكامها وتقديرها، ولا بد لكل صورة من مصوِّر، ولكل تقدير من مقدَّر، ولكل تدبير من مدبِّر.
ودليل آخر
أنها لو كانت قديمة لما كانت في أوصافها مختلفة، فلما وجدناها مختلفة الأنواع علمنا أن لها مدبِّرا خالف بينها، وفصل بعض هيئاتها، وخالف بين صفاتها.
ودليل آخر
أن في العالم آثار حكمة صانع العالم، والحركات ليست بعالمة ولا هي بمدبرة حكيمة (1)، ولا هي بحية مقدِّرة، لأنها علل متعلقة بأجسام النجوم غير متلاحقة، لا تعد ومواضعها من معلولاتها.
ودليل آخر
على فساد قولهم أن حركات النجوم ليس لها أول، وسنبين إن شاء الله فساد قولهم، وذلك أن ما قد مضى من حركاتها لا تحصى لكثرتها (2) في طلوعها وأفولها وإقبالها وإدبارها، وما مضى فقد وقع عليه الفناء، وما صح حدثه وصح فناؤه فله نهاية، لأن الحركة الماضية على حالين محدثين هما الحدوث والفناء، لأن الحركة الماضية لم تعدم إلا بعد حدوث كل ساعة منها، وما صح حدثه وصح فناؤه بعد حدوثه فله نهاية وغاية، لأن الحركة لم تعدم إلا بعد عدم أولها، وما كان له أول وآخر فله نهاية وغاية.
ودليل آخر
أن دور القمر في المنزلتين الشامية واليمانية يدل على حدوث حركته، وعلى حدوث ما كان من شكله، وذلك أنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون ما مضى من دوره في أحد المنزلتين أكثر من دوره في المنزلة الآخرى.
وإما أن يكون ما مضى من دوره فيهما سواء بالسوية.
وإما أن يكون لم يدُر فيهما أصلا.
فإن قلت: إنه لم يدر جحدت حركته.
وإن قلت: إن دوره في أحد المنزلتين أكثر من دوره في الأخرى، فللكثير العدد نهاية وغاية، لأنها لم تكثر إلا بعد قلتها، وللقليل نهاية وغاية.
__________
(1) في (أ): بعالمة حكيمة مدبرة.
(2) في (أ): لكثرها. مصحفة.(1/174)
فإن قلت: إن حركته في المنزلتين بالسوية فهي شفع، وللشفع نهاية وغاية، لأن الحركة في موضعين تدل على التناهي، وكذلك القول في أفولها وطلوعها، أنه يدل على حدث الحركة وبدئها، لأن الحركة لا تكون إلا من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، وقد مضى من ذلك ما لا يحصى، وكان بعد حدوثه عدما، وما صح عدم جميعه بعد حدوثه فله نهاية وغاية، لأن الطلوع والأفول حادثان، وهما بعد حدوثهما منصرمان، وكل ما مضى منهما فهو عدم، وللكل نهاية تحيل القدم، وإذا صح حدث الفلك فلا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون أحدث نفسه.
وإما أن يكون حدث ولا محدث له.
وإما أن يكون أحدثه محدث أبان صنعه من تركيبه وبنيته، وهو الله الذي صنع وافتطر، وأحكم ودبر.
فإن قال: وما أنكرت من تدبيره لنفسه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنه لا يخلو في حال تدبيره لنفسه من أحد وجهين:
إما أن يكون دبَّر نفسه وخلقها في حال الوجود.
وإما أن يكون ذلك في حال العدم، فإن كان في حال العدم فمحال تدبير العدم، لأن الفاعل لا يكون إلا موجودا في حال فعله، والعدم ليس بشيء موجود فيفعل، وإن كان خلقها في حال الوجود فهذا يستحيل، لأنها إذا كانت موجودة استحال قولك: خلقها، إذ كان وجوده سابقا لفعله، وأيضا فإن المخلوق لا يفعل إلا حركة أو سكونا وما أشبههما من الأعراض.
فإن قال: فما أنكرت من أن يكون (1) حدث ولا محدث له؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأن قولك: حدث يوجب أن له محدثا، ثم نقضت قولك بقولك: لا محدث له، فأقررت بالحدث ثم نفيته، لأن الحادث لا بد له من محدِث، كما لا بد لكل فعل من فاعل، ولا بد لكل بناء من بانٍ، ولكل كتاب من كاتب، ولا بد لكل صوت من مصوِّت، ولا بد لكل أثر من مؤثِّر، ومحال أن يكون أثر من غير مؤثِّر، وصوت من غير مصوِّت.
ودليل آخر
__________
(1) سقط من (أ): من أن يكون.(1/175)