قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لاستحالته وبطلانه، وهذا القول مكابرة العيان، لأنا وجدنا النطفة والعلقة معدومة ثم كانت علقة، والمضغة معدومة (1) في حال كونها علقة ثم مضغة، والعظام معدومة ثم كانت عظاما مؤلفة، لا بد لها من مؤلِّف، وكسوة اللحم عدم ثم صورة بعد عدم التصوير، والمحدث مالم يكن ثم كان، وقد وجدنا هذه الأحوال بعد العدم، والصورة غير موجودة في حال كونها نطفة، والحركة معدومة في كل (2) موات من الإنس وغيرهم من الجمادات، والحياة معدومة في حال الموت، والصورة لا بد لها من مصوِّر، وفيها إبانة صنع صانع حكيم.
فإن قال: وما إبانة الصنع في الصورة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: تأليف الأجزاء وإحكامها وتقديرها وإتقانها تدل على صنعها، إذ لم يكن شيء من ذلك، فقضينا على أن لكل مؤلف كان معدوم التأليف مؤلفا، ونظرنا الحياة بعد الموت فعلمنا بيقين أن له محييا، إذ لم نجد صنعا إلا وصانعه موجود وإن لم نره، كالبناء لا بد له من بانٍ وإن لم نر مَن بناه، والكتاب لا بد له من كاتب وإن لم نر كاتبه، والأثر وإن لم نر (3) مؤثِّره، والصوت إذا سمعناه علمنا أن له مصوتا وإن لم نره.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): عدم.
(2) سقط من (أ): كل.
(3) في (أ): تر. وكذلك ما قبلها من الأفعال.(1/166)
وهو أن صنع الحكيم العالم بيِّن، ومحال أن يكون في العلل إبانة صنع، وذلك أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، ولا بيان عليم إلا من عليم، وهو الله الرحمن الرحيم، لأنا نظرنا الإنسان إنسانا كاملا بعد أن كان نطفة من ماء مهين، فعلمنا أن (1) لا بد له من مكمِّل أكمله، ونظرنا إليه حيا بعد أن كان ميتا، سميعا بصيرا بعد أن لم يكن سميعا ولا بصيرا، فبان صنع العالم الحكيم، إذ جعل سبحانه له (2) سمعا يدرك به الأصوات، وبصرا يدرك الهيئات، وشما يدرك به جميع الروائح الخبائث (3) والطيبات، وذوقا يدرك به ما ذاق (4) من الطعوم المختلفات، ولمساً بالجسد كله يدرك به الحر والبرد والخشن واللين وغيرها من أحوال (5) المجسمات، فكل هذه الحواس المختلفة تدل على حكمة صانعها إذ خالف بينها، فجعل كل حاسة تصلح لخلاف ما تصلح له الآخرى.
ودليل آخر
لا تخلو هذه المختلفات من أحد وجهين:
إما أن تكون خالفت بين أنفسها.
وإما أن تكون خالف بينها مدبرها!!
فإن كانت خالفت بين أنفسها فهذا محال، لأنها لم تكن واعية عند كونها، ولا عالمة في حال عدمها، فلما استحال هذا الوجه صح الثاني وهو أن لها مدبرا خالف بينها، إذ الفاعل الحكيم بين صنعه في إحداثها، وجعل كل (6) واحدة من هذه المختلفات لشيء بعينه، ولا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يجعل الشيء للضرورات إلا عليم.
__________
(1) في (أ): أنه.
(2) سقط من (أ): له.
(3) في (ب): من الخبائث.
(4) في (أ): ذاق به.
(5) في (ب): وغيرهما من الأحوال.
(6) في (أ): لكل. مصحفة.(1/167)
ألا ترى أن هذه الحواس جُعلت لعلم جاعلها بضرورة أصحابها إليها وفاقتهم لها، وجعل سبحانه لهم من الأغذية واللذات ما لا قوام لهم (1) باضطرار إلا بها، وجعل لهم مداخل للأغذية ومخارج، ولا يجعل المخارج للشيء إلا عالم بما صنع من المداخل التي لا قوام لهم إلا بها ولا منصرف لهم عنها إذ اضطرهم إليها، وجعل ما ينتفعون به من الآلات والأدوات من (2) الأيدي التي تصلح للبطش، والأرجل التي تصلح للخطو والحركة والسير، والألسن الناطقة بأفنان الحكمة المؤدية للمصلحة، والعقول المميزة النافرة عن المضار المجتلبة للمنافع، التي هي حجج على من جُعلت له.
ولا تكون حكمة محدثة صح حدثها وبطل قدمها، وكانت بعد عدمها إلا من حكيم، مدبِّر عليم، حي قيوم، ولا يجعل ذلك إلا لبقاءه ونفعه، لا (3) لفنائه وضره، إذ الحكمة موجبة لذلك فيما قد بان من رأفة الصانع، إذ جعل في المصنوعات مصالح تدل على أنه أراد ذلك لها، وأخبر بذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك أوجبت حكمة الألباب أن من مكن من(4) الاستطاعة من الأنام لا بد من إساءته وإحسانه، فوجب لذلك الثواب على إحسان من أحسن من المحسنين، ووجب عقاب من استحق العقوبة من المسيئين، فلما انقضت آجال المحسنين ولم يثابوا، وانقضت آجال المسيئين ولم يعاقبوا، علمنا أن دارا غير هذه الدار يثاب فيها من استحق الثواب، ويعاقب فيها (5) من استحق العقوبة من المسيئين، فنسأل الله أن يرزقنا ما رزق المستحقين لثوابه، وأن يصرف عنا ما استوجب العاصون من عقابه وعذابه، وأن يثبت أقدامنا على صراطه، إنه على كل شيء قدير، وإليه المعاد والمصير.
- - -
باب الرد على أهل الإلحاد في التولد
__________
(1) في (أ): له. مصحفة.
(2) سقط من (أ): من.
(3) في (أ): إلا. مصحفة.
(4) في (أ): في.
(5) في (أ): عليها.(1/168)
وقولهم: إنه لا نهاية لشيء من الأشياء، وإنه لم يزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة، وبيضة من طائر وطائر من بيضة إلى ما لا نهاية، وحبة من سنبلة في سنبلة من حبة إلى مالا نهاية له ولا غاية.
قال المهدي لدين الله ا لحسين بن الإمام القاسم بن علي صلوات الله عليه: فإن قال بعض الملحدين: فما أنكرت من أن تكون هذه الحيوانات لم تزل تحدث شيء من شيء وشيء بعد شيء وشيء قبل شيء إلى مالا نهاية له ولا غاية؟
قيل له ولا قوة إلا بالله:أنكرنا ذلك أشد الإنكار، وقولك متناقض فاسد، وذلك أنك قلت: لم تزل فأوجبت أنها أزلية، ثم نقضت قولك بقولك: تحدث فأوجبت الحدث والعدم في حال واحد، فأحلت (1) القول على نفسك، وذلك أنك إذا جعلتها أزلية بطل الحدث، وإذا جعلتها محدثة أزلية فسد قولك، لاستحالة كونها معا في حال واحد كما ذكرنا.
ودليل آخر
على فساد هذا القول أن كل شيء موجود بذاته محدَث له غاية في نفسه.
ودليل آخر
أن لكل (2) منهم وإن كثر كون بعضهم من بعض، له نهاية وغاية وعليه نعمة، وفي تركيبه وبنية حكمة (3)، والنعمة لا تكون إلا من منعم، والحكمة لا تقوم إلا بمحكم (4)، وما كان من الحيوانات منعَما عليه، وكان في جميع أسبابه محسنا إليه، فيستحيل أن يكون غير متناهي (5)، وأن يكون من غير أصل ولا بدي.
ودليل آخر
أن كل ما احتمل الزيادة والنقصان فقد كان ناقصا قبل زيادة ما زاد منه إلى غاية الزائد المتناهي إلى النقص، لأن الزائد لا يزيد إلا بعد النقصان، والنقصان متناهي بأبين البيان، لأن المنقوص محدود بأوضح البرهان.
ودليل آخر
أن كل ما كان له آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول.
ودليل آخر
__________
(1) في (أ): فأدخلت. مصحفة.
(2) في (ب): الكل.
(3) في (أ): نعمه في كل تركيبه وتنبيه حكمه. مصحفة. وفي (ب): نعمه في تركيبه وبنيته حكمه. ولعل الصواب ما أثبت.
(4) في (ب): من بمحكم. مصحفة.
(5) في (أ): يكون متناهيا. مصحفة.(1/169)
الفرع والأصل لما وجدنا الفرع دلنا على الأصل(1)، ويستحيل فرع بلا أصل.
ودليل آخر
أن الحيوانات على قسمين:
قسم ميت هو الأصل.
وقسم حي هو الفرع، وللقسمين غاية ونهاية (2).
ودليل آخر
أن الأصل لا يعدو (3) مكانه الذي هو محله، ومحل أصول الحيوانات هذه الأرض، والأرض قد حوت الجميع وحازتهم، وتضمنت جميع الأموات وأحاطت بهم، وكل ما أحيط به فهو محدود، وكل شيء حل موضعا فموضعه(4) أكثر منه عددا، وما كان غيره أكثر منه كان بالنقص (5) محدودا.
ودليل آخر
أن أصول الحيوانات محمولة على الأرض كلها، ولكلٍ نهاية وغاية، لأن المحمول على الأرض أقل من حامله، والأرض فقد حملت جميع الحيوانات، من الأحياء والأموات.
ودليل آخر
أن الأصول التي زعمت أنها غير متناهية لا تخلو من العدد، وكل ذي عدد لا يخلو من النوعين المعروفين وهما الشفع والوتر، وقد وجدنا كل ذي نسل من الإنس والبهائم والطير والزرع من كل الأشجار ذوات زيادة (6) غير منفك من العدد، والشفع له نهاي وغاية، وكذلك الوتر أيضا.
ودليل آخر
أن الأصل وقع عليه الفناء، وكل ما فني وامتحق فله نهاية وغاية.
ألا ترى أن الموت لا يقع إلا على نفس معدودة، متناهية محدودة.
- - -
باب الرد على أصحاب الطبع
قال المهدي لدين الله الحسين بن الإمام القاسم بن علي عليهما السلام: فإن رجع إلى قول أصحاب الطبائع فقال: ما أنكرت من أن تكون هذه الأشياء حدثت من الطبائع الأربع الخير والشر واليبس والرطوبة عند امتزاجها واعتدالها، ثم نقص من جزء وزيد في جزء فجاء ضرب غير الأول، ثم على هذا القياس كمثل خضرة وحمرة وبياض وصفرة، مزج بينهما (7) فعدلت حينا، ونقص من جزء وزيد في آخر (8)؟
__________
(1) في (ب): أصله.
(2) في (ب): نهاية وغاية.
(3) في (ب): لم يعدوا. مصحفة.
(4) في (أ): فهو وصفة. مصحفة.
(5) في (أ): بالبعض.
(6) في (ب): الزيادة.
(7) في (أ): أنها. مصحفة.
(8) في (أ): الآخر.(1/170)