قيل له ولا قوة إلا بالله: ذلك العقل (1) الذي لا يجوز عليه المحال، ولا يقبل ما فسد من المقال، فلو أدركنا صنع جميع الأشياء مشاهدة رأي أعيننا، لما كان (2) ذلك أبداً مثل العقل عندنا، فالحمد الله الذي هدانا إلى معرفته، وعلَّمنا ما نستدل به على حكمته، ووهب لنا التمييز برحمته (3)، فلقد جاد علينا من العقول بما لا نؤدي شكره، فالحمد لله الذي ضمَّن قلوبنا نوره، ونسأل الله أن يجعله آمرا لنا بالخيرات، وزاجرا عن السيئات، وأن ينجينا من الموبقات، وينقذنا به من المهلكات، فلم مجوج به لم ينتفع بضياء بهجتهه، ولم ينف به حندس ظلمته، ولم يخرج به من معصيته، ولم يطلب به رضاء الله في آخرته، وصرفه في أهلك مهالكه، وسلك به شر مسالكه، فلعمري ما أُتينا من قِبَل عقولنا!! ولكن من سوء أفعالنا وظنوننا، فنسأل الله المغفرة لما تقدم من ذنوبنا.
- - -
باب الدلالة على التعبد
قال المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه: إن سأل سائل فقال: ما الدليل على التعبد؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: اعلم أيها السائل أن الله ركب الاستطاعة في العباد والشهوة، فلم يكن بد من صرف (4) الاستطاعة في خير أو شر، فتعبَّدهم بفعل الخيرات، وترك الفاحشات، إذ الحكيم لا يحب الفساد.
فإن قال: ولِمَ ركَّب فيهم الاستطاعة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن الاستطاعة هي القدرة، والقدرة خير من العجز، والعقول هي العلم، والعلم أفضل من الجهل.
فإن قال: فلم كلفهم ما يستثقلون؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: للفرق بين المطيعين والعاصيين.
فإن قال: ولم فرق بين المطيعين والعاصيين؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: يميز بين الخبيث والطيب، إذ ليس من صفة الحكيم أن يجعل المفسد والمصلح سواء في محل واحد.
__________
(1) في (ب): فإن قال: وما الذي قيل له ذلك العقل.
(2) سقط من (ب): كان.
(3) في (ب): لنا العقل لنميز برحمته.
(4) في (ب): ظرف.(1/156)
فإن قال: فلم خلقهم وقد علم بإفسادهم (1)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن خلقه (2) لهم حسن وفعلهم قبيح، ولم يكن الحكيم ليترك فعل الحسن من صنعه (3)، لقبيح فعل غيره.
فإن قال: فما الدليل على البعث (4)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على ذلك أن الحكيم لا يخلق الخلق ويظهر الحكمة إلا للبقاء، لأن الفناء بالكلية ليس من الحكمة، وإذا لم يكن بد من أمر ونهي، فلا بد من مأمور مطيع (5) وعاصي، وإذا لم يكن بد من الطاعة والمعصية فلا بد من الثواب والعقاب، وإذا لم يكن (6) بد من الثواب والعقاب ولم يكن ذلك في هذه الدار فلا بد منه في غيرها، وإذا لم يكن بد من التعبد ولم يكن ذلك إلا بأمر ونهى فلا بد من رسول.
فإن قال: فلم خلقهم في بد المنشأ (7)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهار الحكمة من صفة الحكيم.
فإن قال: ولِمَ يظهر الحكمة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهارها حسن.
فإن قال: ولِمَ يظهر الحسن؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن إظهار الحسن خير من تركه.
فإن قال: ومن أين كان إظهار الحسن خيراً (8) من تركه؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لم يكن بد من أحد المعنيين، إما تركه وأما فعله، فتركه ليس من صفة الحكيم، وفعله أولى بالحكمة.
فإن قال: فمن أين جاز الشرع؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: من قبل التعبد، لأن الشرع هو نفس العبادة والبلوى، التي بها يعرف بين من أحسن وأسماء.
فإن قال: فمن أين جاز يتنبأ بعض الخلق دون بعض؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن النبوة ثواب وتفضيل، والثواب والتفضيل لا يكونان إلا بفعل الطاعة والصبر على المحنة (9).
__________
(1) في (ب): بعنادهم.
(2) في (ب): قيل: خلقه.
(3) في (ب): صفته.
(4) في (ب): على الهدى. مصحفة.
(5) في (ب): يكن... فلا يقبل مطيع.
(6) سقط من (ب): لم يكن.
(7) في (أ): المعنى. مصحفة.
(8) في (أ)، (ب): خير. والصواب ما أثبت.
(9) هذه نظرية المطرفية في النبوة والإمامة.(1/157)
فإن قال: فلم ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لم يخرج من الحكمة، إذ جعله نذيرا لجميع الباقين، وحجة إلى يوم حشر العالمين.
فإن قال: ولم جاز أن يكون الميت حجة على الأحياء المتعبَّدين؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه أتى بالتعبد والآيات والقرآن الحكيم، والأئمة الهادون مترجمون عنه، والعقول شاهدة على ذلك على المخلوقين، وكل ذلك فلم يعدم بعدمه صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قال: فهل للإمامة (1) أصل في المعقول؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم أصل الإمامة في المعقول، لأن الحكيم قد علم بأن لا بد من الاختلاف بين المخلوقين، فجعل في كل زمان إماما (2) حيا مترجما لغوامض الأمور، مبينا للخيرات من الشرور، ولا يعدم ذلك في كل قرن من القرون، إما ظاهرا جليا، أو مغمورا خفيا.
فإن قال: وما الظاهر الجلي، وما المغمور الخفي؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما الظاهر الجلي فالسابق المنذر لجميع الخلائق، والشاهر لسيفه، المصلح لله في عباده وبلاده، وأما المغمور فالمقتصد المحتج لله على جميع العباد، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر (3) الفساد، بغير قيام ولا جهاد.
فإن قال: فهل الإمامة في أهل بيت دون غيرهم، أم هي في جميع الناس كلهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: بل هي في أهل بيت معروفين، مخصوصين بالفضل مشهورين، معلومين غير مجهولين.
فإن قال: ومَن أولئك؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أولئك نسل البتول، وأقرب قرابة الرسول.
فإن قال: فهل لهذه الخصصة أصل في العقول (4)؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: نعم أصل ذلك في العقول، وبعد ذلك في محكم التنزيل، ووحي الواحد الجليل.
فإن قال: وكيف يعقل أن تكون الإمامة في قوم دون سائر الأنام؟
__________
(1) في (أ): الإمامة.
(2) سقط من (ب): إماما.
(3) سقط من (أ): المنكر.
(4) في (أ): المعقول.(1/158)
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن الله عز وجل حكيم، والحكيم لا يحب الفساد، ولا فساد أعظم من أن يجعل دينه في أيدي الخلائق وأمره ونهيه وحدوده وحلاله وحرامه ووعده ووعيده وحجته وأحكامه، فيهمل (1) الكل ويلبس عليهم دينهم، إذ جعل الإمامة في جميعهم، ولم يكن ذلك في قوم بأعيانهم مخصوصين بذلك من دون غيرهم حتى لا يختلف فيهم، فهذا في المعقول.
وأما في الكتاب فقول الله عز وجل يدل (2) على أصل الإمامة، وكذلك في السنة المجمع عليها عند جميع الأمة.
__________
(1) سقط من (ب): فيهمل.
(2) في (ب): فقوله تعالى يدل. وسقط من (أ): يدل.(1/159)
فأما وجوبها في الكتاب فقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ? ?????????? ?????? ???????? ????????? ??????? ????? ??? ? [الرعد:7]، فبين أن كل قوم هاديا، فاختلفوا في الهادي من هو وممن هو؟ فبيَّن الله ذلك بفضله، فيما نزل من محكم قوله، فقال عز من قائل: ? ????? ???????? ?????? ???????????? ??????? ???? ????????? ? [الطلاق:10 - 11]، فسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا، ثم أمر بسؤال آله، فقال عز من قائل: ? ??????????????? ????????? ??????????? ???? ??????? ??? ????????????? ???? ? [النحل:43، الأنبياء:7]. وأهل الذكر فهم آل محمد عليهم السلام، وفي ذلك ما يقول عز من قائل لنبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيما نزل من الفرقان إليه: ? ???? ????? ???????????????? ????????? ????????? ??????? ????????????? ? ??????????????? ? [الشورى:23]. فافترض مودتهم على الخلق فرضا، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأمر الناس بذلك أمرا، فهذا في الكتاب المبين، وفيه كفاية لجميع المسلمين، غير أنا سنذكر أيضا بعض ما ذكر الرسول، مما لا تنكره العقول، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الخوض)).
وأما في الإجماع فأجمعت الأمة كلها على نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الحق ما أجمعت عليه الأمة، والباطل ما اختلفت فيه))، ووجدنا الناس كلهم مجمعين على إمامة أمير المؤمنين ونسله في أصل الإجماع، وأصل الإجماع أن الناس أجمعوا كلهم على جواز الإمامة في آل الرسول واختلفوا في غيرهم، فالحق ما أجمعوا عليه من جواز الإمامة في آل نبيهم، والباطل ما اختلفوا فيه من إمامة غيرهم، لأن الأمة خمس فرق، وهم: الشيعة، والمعتزلة، والخوراج، والمرجئة، والعامة.(1/160)