وقد أبدى العلامة المحقق في هذا المجموع من الكتب والرسائل يدا خبيرة في شروط التحقيق، يمكن القول بكل اطمئنان إلى أنه قد استكمل فيه عدته وعتاده وأقدم على تحقيقها وهو ضليع بمعرفتها، محيط بأجوائها، ضارب فيها بجذور. وتحقيق التراث-كما هو معروف- ليس سهلا، فله شروط ومواصفات وضوابط، بحيث أنه لا يقدم عليه إلا من أوتي بسطة في المعرفة، ومعرفة بالحقل الذي يتعامل معه، وعلما بسعة أبعاده، وعمق تياراته. والمؤسف أن هناك في هذه الفترة هجمة على تحقيق التراث ممن يعرف ومن لايعرف، والأنكى من ذلك أن يحقق الكتب الرفيعة من ليس يعرف من العلم إلا قليلا، ومن شروط التحقيق إلا الأقل، والأكثر إيلاما أن يتناوله من ليس من اختصاصه فيسعى فيه فسادا وإفسادا، إن أي محقق -وخاصة لكتب علم الأصولين- لا بد أن يكون على علم بسعة بحارهم، وبقوة أمواجهم، وبعمق تياراتهم، وإلا فسوف يجرفه الموج ويطويه التيار، وله في محققنا وفي غيره من المحققين الكبار أسوة حسنة لمن أراد في التحقيق نبوغا.
ومحققنا الفاضل باختياره لهذا النوع من الكتب يعكس اتجاهه العقلي وتفكيره العلمي، وما نشر من تحقيقاته حتى الآن تنبئك أنه يختار الأصعب والأعمق، ولا يختار الأسهل والأيسر، وهو قد حقق الآن عدة كتب ومجاميع، تضرب أكثرها في الأمور العقلية الشاقة التي تحتاج إلى تأن وصبر ومكابدة، وخرج منها بطريقة واضحة هي أنه لايسرع فيخل، ولا يتقحم فيضل، ولكنه يعرف أين يضع قلمه فيدُل، فبارك الله في جهوده، وسقى طلاب التراث من يده ما ينقع الغلة، ويشفي الظمأ.
ومن هنا فهذا الكتاب الذي يقدمه اليوم مركز التراث والبحوث اليمني إنما هو إضافة إلى سلك منضود قام به علامتنا المحقق الشاب المتمكن.
وفقه الله لبلوغ أهدافه العلمية.
زيد بن علي الوزير
لندن، يوم الجمعة
9 - جمادى الثانية 1424هـ/8 أغسطس 2003م
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسين والحسينيه والمهدية(1/11)
ليس هناك خلاف بين مؤرخي الزيدية في وجود الفرقة الحسينية التي زعمت أن الحسين بن القاسم العياني لم يَمُت، وأنه سيعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وأنه المهدي, وأنه أفضل من رسول الله, وأن كلامه أبهر من القرءان... إلخ تلك العقائد الباطلة التي ستمر بها، والتي استمرت إلى حدود القرن التاسع الهجري.
إنما الخلاف في عقيدة الحسين بن القاسم نفسه. فأكثر الزيدية المتأخرين يميلون إلى نفي هذه العقيدة عنه، أعني عقيدة المهدية والرجعة. وسيرة مفرِّح بن أحمد للأميرين تُثبتُ وجودَ هذه العقيدة لدى الأميرين، وإن مال الشريف الفاضل إلى إخفائها، فقد خالفه أخوه ذوالشرفين في إظهارها والتأكيد عليها. كما تُثبتُ سيرة مفرح وجود الشيعة الحسينية القائلة برجعة المهدي الحسين بن القاسم كفرقة أو فريق في جيش الأميرين، لكنها لا تقول شيئا عن عقيدة المهدي الحسين نفسه.
وفي المصادر ما يشير إلى أنه كتب كثيرا وبسرعة، للرد على خصومه ممن أنكروا عليه استحقاقه للإمامة وهو ما يزال في مقتبل العمر، إذ أنه بويع وعمره (17) عاماً، وأن مدخره من العلم كان قليلا، وكان يصرّ -رداً على خصومه - على أنه موافقٌ في المذهب للهادي وابنه المرتضى، لكنه من جهةٍ ثانيةٍ يُشيدُ بمؤلفاته ويعتبرها متفوقة على كل ما كتبه السابقون من الأئمة وغيرهم.(1/12)
ومن خلال موازنة الآراء والأقوال والأحكام التي صدرت معه وضده يرجّحُ القول أنه كان يذهب إلى القول بأنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. صحيحٌ أن تلقُّبه بالمهدي لدين الله لا يشير ضرورةً إلى ذلك، فقد تلقّب بذلك أحد كبار علماء أهل البيت الثائرين بالديلم من قبل دون أن يدّعي المهدية(1) لكن هناك إلى جانب اللقب أمورٌ أخرى هي بمثابة قرائن تدعم شكوك مسلَّم اللحجي (ت 552 /1060) والمتوكل على الله أحمد بن سليمان (ت 566/73-1074) وابن الوزير (ت 840هـ/1436م) وصلاح بن الجلال (ت855/1451) وابن أبي الرجال (ت1092هـ/1681م) وإن اختلفت تعليلاتهم لذلك.
من تلك الأمور، اتساع دعواه، مع ازدياد المعارضة له، وقسوته ضد منافسيه من آل الهادي، ومزاجيته الخاصة، وذهاب ابني عمه ومجموعة من أنصاره بعد مقتله إلى أنه لم يُقتل وسيعود، وعدم ادعاء أحدٍ من أبناء أسرته الإمامة بعده، بل الإمارة والاحتساب ترقُّباً- فيما يُظنُّ - لعودته، وانتشار دعاوى المهدية على رأس القرن الخامس، وأفكار وتيارات الغُلُوّ بشكل عام.
أما اتساع دعواه فيظهر في عناوين كتبه مثل: المعجز، والتحدي للعلماء والجهال، والرد على الزنيم(2) وغيره من الضُلال الكَفَرة الأوباش، والردّ على الملحدين، وكتاب الرحمة، والرد على مَن أنكر الوحي بعد خاتم النبيين، والولاء والبراء... إلخ.
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن القاسم، المعروف بأبي عبد الله بن الداعي. خرج إلى الديلم ودعا إلى نفسه عام (353/964) ولم يلق نجاحا كبيرا، وتوفي عام (360 /70-971)عن سن عالية. قارن عنه: أخبار أئمة الزيدية في طبرستان وديلمان جيلان، نصوص تاريخية جمعها وحققها ويلفريد ماديلونغ، بيروت 1987م / 103 – 118.
(2) والزنيم رجلٌ اسمه: يوسف بن عقيب اتهم الحسين بالجهل.(1/13)
وكان يمكن التحقق من غلوه أو عدمه من مؤلفاته لولا أنها -كما يبدو - نُظفت من قبل، وربما في عصر الشريفين ابني عمه، لأن المتوكل على الله أحمد بن سليمان (566 هـ) يأخذ عليه من ضمن ما يأخذ تسمية أحد كتبه بالمعجز(1) بينما المعجز كتاب الله وحده. وأخذُه عليه التسمية فقط يدل على أنه لم ير في الكتاب في عصره ما يزعج أو يثير القلق غير الاسم. والكتاب - أو ما بقي منه- بين أيدينا اليوم هو بالفعل غير مشكلٍ إذ اسمه الكامل: (كتاب المعجز الباهر في العدل والتوحيد لله العزيز القاهر) - وهو عبارة عن إجابات على أسئلة عن وجود الله، وذاته، وصفاته، على طريقة البغدادية من المعتزلة، وهو يذكّرُ من بعيد بأسلوب القاسم بن إبراهيم في الكتب المنسوبة إليه. فالظاهر أن الكتاب نُظِّف، وتعرّض للحذف والاختصار قبل انتشاره، فما استطاع الخصوم الاستناد إلى غير اسمه في الحطّ على الحسين بن القاسم.
وربما استناداً إلى هذا الكتاب بالذات، قبل تنظيفه كان ذهابُ مَن ذهب إلى أن الحسين زعم أنه أفضلُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلامه أبْهَرُ من كلام الله، ومعنى أبهر عندهم: أي أقطع للخصوم الملحدين من كلام الله!.
__________
(1) الحكمة الدرية/323: (وألّف في التوحيد كتاباً وسماه كتاب (المعجز) وهذا أول الخطأ في تسمية الكتاب لأن المعجز كتاب الله. وكان أكثر ما فيه أنه احتج على عُبّاد الأهوية... ثم قال بعد ذلك: إن العرش هو الله).(1/14)
وهناك عنوان كتاب آخر من بين كتبه هو: "الرد على مَن أنكر الوحي بعد خاتم النبيين". ويبدو أنه على أساسٍ من هذا الكتاب قال عنه أحمد بن عبد الله الوزير وهو غير مُعادٍ له ولأسرته، إذ ينوّه بأن جدته لأبيه عاتكة بنت محمد بن إبراهيم من ولد علي بن القاسم بن علي العياني: (وعرض معه اختلالٌ لأجله صدرت منه أفعالٌ وأقوالٌ لا تصدُرُ من العقلاء. فادعا أنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلامه أبهر من القرآن، وأنه يُوحى إليه في النوم)(1).
ومع شدة اختصار كتاب الرد على من أنكر الوحي فيمكن التبيُّن منه فعلا أن الوحيَ في نظره عدة أنواع: قال في كتاب الرد على من أنكر الوحي: (فمنه ما يكون على ألْسُن الملائكة المقربين، ومنه ما يُخلَق في أسماع المرسلين، ومنه ما يُقذَفُ في القلوب، ومنه ما يُرى في المنام).
وهو ينفي إمكان الخطاب عن طريق الملائكة بعد خاتم النبيين، كما ينفي إمكان الخَلق في الأسماع بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضا...(وأما الوحي الذي جعله الله في المنام، فلا ينقطع أبداً عن أهل الفضل والإسلام، ولأئمة الهدى من ذلك ما لا يكون لأحد من المخلوقين، ولا يمكن أن يُلقى إلى أحدٍ من المؤمنين، لأن الأئمة شركاء النبيين، وفي ذلك ما يقول أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين، عليه صلوات رب العالمين: (بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "الرؤيا الحسنةُ من الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزأ من النبوة")(2).
__________
(1) تاريخ بني الوزير ص32.
(2) الأحكام في الحلال والحرام2/550 للإمام الهادي يحيى بن الحسين.(1/15)