ثم ركب الأجساد على النعم واللذات، والمعايش المقرونة بالحياة، من الأرزاق المبسوطة، المنزلة المجعولة (1)، التي لا قوام لهم إلا بها، ولا غنى لهم أبدا عنها، وعلم أن تلك الأغذية لا تتم إلا بالوصول إلى أجسادهم، ومباشرة بطونهم وأكبادهم، فجعل لها مداخل اضطرهم إليها، وبناهم بناء عليها، وعلم أنه إن لم يجعل لذلك الغذاء مخارج قبل كونه في بطونهم، وإلا هلكوا ودمروا، ولم ينموا ولم يكثروا، فقدم ذلك وجعله، وركبه وفعله، لعلمه بفاقتهم إليه، فركبهم وبناهم عليه،رحمة منه لهم، وتفضلا عليهم، وعلم عز وجل أنهم لا ينمون ولا يكثرون إلا بما جعل من(2) الإناث والذكور، وما في تناسلهم من التدبير، وعجيب الصنع والتقدير، فجعل منهم إناثا وذكورا، ليكون للنسل أصولا، وصنعا عجيبا جليلا (3)، فجعل في الذكور والإناث، من الشهوة ما يكون سببا للإحداث، وجعل لذلك أماكن(4) غير مشتبهة يصلح بعضها لبعض، بتقدير الحكيم، المدبر الحي العليم، وجعل في تلك الأماكن مسالك لنطف الذكور، إلى أماكن الحكمة والتصوير، فانفصل (5) من الأصلاب إلى الأرحام، بتدبير ذي الجلال والإكرام، نطف أقرها الله بقدرته، وأثبتها بمشيئته، إلى أجل معلوم، ووقت من الأوقات مفهوم، ثم أخرج تلك النطف بعد نطوفيتها (6) وموتها أطفالا صغارا، قد شق لهم أسماعا وأبصارا، وأخرجهم سبحانه من بطون أمهاتهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يقدرون للآفات والمضار دفعا ولا منعا، ولا يعقلون بصرا ولا سمعا، ولا يهتدون سبيلا، ولا يملكون عقولا، وعلم عز وجل أنهم لا يقومون، ولا يحيون ولا ينمون، إلا بما ركبهم عليه من الأغذية واللذات، وقوامه الأجساد المجسمات، وأنهم يضعفون بصغرهم(7)
__________
(1) سقط من (ب): المجعولة. وترك مكانها فراغا.
(2) في (أ): في.
(3) سقط من (ب): جليلا.
(4) في (أ): أماكنا.
(5) في (أ): فالفصل. مصحفة.
(6) في (أ): به أخرج... وفي (ب): ثم أخرج تلك النطف بعد توقيتها.
(7) في (ب): بعصرهم. مصحفة.(1/141)


عن المآكل التي لا تصلح للأطفال، فجعل لهم قبل كونهم أغذية في أجساد أمهاتهم، لعلمه بضعفهم وفاقتهم، وجعل في قلوبهن رحمة بهم فأحياهم بذلك وقواهم، وكفلهم به وأغناهم، وأنبتهم به وأنماهم، وأنعم عليهم (1) بذلك وغذاهم، وشد أسرهم وقواهم، وأعطاهم العقول فهداهم، ثم أمرهم ونهاهم، بعد أن بصَّرهم هداهم.
فأي عجيب أعجب مما ذكرنا؟! وأي حكمة أكمل مما به قلنا؟! وأي نعمة أسبغ؟! أو أي حجة أبلغ؟! مما ذكرنا من صنع ربنا وخالقنا، وإلهنا ورازقنا، فبينما نحن نطف حقيرة أموات إذ نحن على غاية الكمال، من توصيل الأجساد والأوصال، والحياة بعد موتتنا، والتكثير بعد قلتنا، والعقول بعد غفلتنا، والحمد لله على ما امتن به علينا، وأسداه من النعم إلينا، ولا إله إلا هو جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، وسبحانه عن شبه المخلوقين، وتبارك عما يقول به العادلون، وينسب إليه الجاهلون، فلما نظرنا إلى هذه الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، علمنا أن الحكمة صفة حكيم، لما فيها من بيان علم العليم، والصفة لا تكون إلا لموصوف، فمن هنا صح ما به قلنا.
ودليل آخر
إما أن يكون العقل شاهدا على أن في هذه الحيوانات حكمة.
وإما أن يكون شاهدا على أنه ليس فيها حكمة.
__________
(1) سقط من (أ): عليهم.(1/142)


فإن قلت: إن العقل شهد على أن ليس فيها حكمة، فهذا من أكبر المحال، وأقبح ما نُطق به من المقال، لأن كل حكمة موجودة ليس الأصل فيها إلا من الحيوان، وهو في نفسه وخلقه وعقله وتركيبه، أحكم من فعله وقوله، وإن رجعت إلى الحق فقلت: بل في الحيوانات من الحكمة ما لا (1) أن ينكره عاقل، ولا يكابر فيه عالم ولا جاهل، لم يخل العقل من أن يكون شاهدا على أن هذه الحكمة من صفة حكيم، أو شاهدا على أنها من صفة جاهل موات غير عليم (2)، أو شاهدا على أنها من صفة معدوم، فهذا محال، لأنك جعلت للعدم صفة وهي الحكمة، فجعلت العدم حكيما، فأثبت موجودا والعدم لا شيء، ولا شيء لا يوصف بالحكمة ولا بالجهل!! ولا يوصف بالتدبير ولا العقل!! وأيضا فقد أوجبت الحق بإثباتك الصفة (3) إذ لا تكون الصفة إلا لموصوف، ثم نقضت قولك بإثباتك للمعدوم والعدم ليس بمجهول ولا معروف.
وإن قلت: إن الحكمة من صفة موات جاهل، فهذا ما لا يقول به من الخلق عاقل، ولا يراه من الناس إلا غافل، لأن من صفة الموات الجهل، وبطلان الحكمة والعقل، وما كان من الأشياء جاهلا، وكان عن التدبير حائرا غافلا، لم يكن حكيما ولا عاقلا، وما كان بالموت والغفلة موصوفا، وكان بالعجز والجهل معروفا، فيستحيل أن يكون منه حكمة بالغة، ونعمة جليلة سابغة، لأن الحكمة هي الإحكام، والكرم والتفضل والإنعام، فإذا بطل أن يكون ذلك من العدم المعدوم، وبطل أن يكون من موات غير عليم، صح الوجه الثالث وهو الله العليم الحكيم.
ودليل آخر
إما أن تكون هذه الحكمة تولدت من طبائع قديمة حية مدبِّرة.
وإما أن تكون تولدت من طبائع محدثة مصنوعة مدبَّرة.
وإما أن تكون تولدت من العدم.
فإن قلت: إنها تولدت من العدم أوجبت أنها معدومة ونفيت وجودها، لأن العدم لا يوجب وجودا إذ هو غير موجود، ولا شيء سوى النفي مقصود.
__________
(1) في (أ): هو في الحيوانا ما لا.
(2) في (أ): عالم.
(3) سقط من (ب): الصفة.(1/143)


وإن قلت: إن هذه الحكمة تولدت من طبائع محدثة، فالمحدِث لأولها هو المحدِث لآخرها، وفي هذا إثبات الخالق لها.
وإن قلت: إن هذه الحكمة تولدت من طبائع قديمة ميتة، فهذا محال، لأنها لا تخلو من (1) أن تكون أوجدتها بعد العدم، أو هي كانت موجودة معها في حال العدم (2).
فإن قلت: إنها كانت قديمة معها، ثم انفصلت عنها، فهذا محال، لأنا قد بينا حدثها، وأوضحنا الدليل على حدوث فرعها وأصلها فيما تقدم من قولنا، وأيضاً فإن في (3) الحكمة آثار صنع العالم الحكيم.
وإن قلت: إن هذه الطبائع الميتة أوجدت الحكمة بعد العدم، فهذا محال، لأنها لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن تكون أوجدتها بعلم.
وإما أن تكون أوجدتها بجهل.
فإن قلت: إنها أوجدتها بعلم فهذا محال، لأن الميت لا يعلم شيئا، ولا يكون العالم إلا حيا.
وإن قلت: إنها أوجدت الحكمة بجهل فهذا محال، لأن الجاهل الميت لا يعقل ولا يعي، ولا يحسن ولا يسيء (4)، ولا يحكم التدبير، ولا يبرم الأمور.
وإن قلت: إن هذه الحكمة حدثت من علل قديمة مدبِّرة، فهذه (5) صفة الخالق والخالق ليس يسمى عللا، وإنما هو الله الذي لا إله إلا هو العليم الحكيم.
ودليل آخر
أن العلل الميتة محدثة، لأن الموات ساكن، والساكن مقيم لابث، واللابث لا يخلو من أن يكون لبث وأقام وقتا طويلا، وأقام وقتا قليلا.
فإن قلت: إنه لبث وقتا قليلا، أوجبت حدثه من قليل من الأزمان.
__________
(1) سقط من (ب): من.
(2) في (ب): القدم.
(3) سقط من (ب): في.
(4) في (ب): ولا يغني، ولا يمس ولا شي. مصحفة.
(5) في (أ): فهذا هو.(1/144)


وإن قلت: إنه مقيم لابث منذ وقت طويل قديم، فهذا محال أن يكون الوقت قديما، لأن الأوقات هي الأزمان والأزمان قد فنيت، ووقع الفناء على كل ما مضى منها فعدمت، ولم تعدم الأوقات والأزمان كلها إلا بعد حدوثها، ولم يعدم آخرها إلا بعد عدم أولها، وإذا كان للمقام والأوقات أول وآخر فقد صح حدث الجسم المقيم إذ لم ينفك من المقام والأوقات، وما لم ينفك من سكون الساعات، ولم يكن قبلها، فسبيله في الحدث سبيلها.
إن قلت: إن الأجسام كانت قبل الزمان، سألناك أكانت متحركة أو ساكنة؟
فإن (1) قلت: لا متحركة ولا ساكنة جحدتها ونفيتها.
وإن قلت: إنها كانت قبل الزمان غير منفكة من حركة أو سكون، لم يخل من أن تكون تحركت أو سكنت قليلا أو كثيرا (2).
فإن قلت: إنها تحركت أو سكنت كثيرا، فالكثير أوقات، ودهور وأزمان وساعات، وفي ذلك إثبات ما قلنا به من أن الأجسام، لم تنفك مما ذكرنا من الأزمان.
وإن قلت: إنها تحركت أو سكنت أوقاتا قليلة، أوجبت أيضا أنها لم تنفك من قليل الأوقات، فكأنها لم تنفك من المحدثات، ولم تكن قبلها موجودات، وإذا لم تكن قبلها، ولم تتقدمها فهي محدثة معها، وإذا صح حدث الأجسام كلها، وصح حدث حركاتها وسكونها، لم تخل من أحد أربعة أوجه:
إما أن تكون أحدثت (أنفسها.
وإما أن تكون حدثت هملا.
وإما أن تكون حدثت من) (3) محدِث قديم.
فإن قلت: إنها أحدثت أنفسها، فهذا محال، لأنها كانت معدومة، فكيف تحدث أنفسها وهي غير موجودة، والفاعل لا يكون إلا موجودا غير معدوم(4).
وإن قلت: إنها حدثت لعلة، لم تخل العلة من أحد وجهين:
إما أن تكون جسما.
وإما أن تكون عرضا.
__________
(1) في (أ): وإن.
(2) في (ب): تحركت كثيرا وسكنت قليلا وكثيرا.
(3) سقط من (ب): ما بين القوسين.
(4) في (ب): والفاعل لا يكون معدوما.(1/145)

29 / 58
ع
En
A+
A-