وإن قلت: إنه حدث بالتولد نطفة من إنسان، وإنساناً من نطفة، إلى ما لا نهاية، ولا أصل ولا بُدي، ولم يزل شيئا من شيء، فهذا محال، لأنك قد أقررت بما شاهدت من حدثه، ثم نقضت يقينك بالظن الكاذب، فقلت: لا أصل للمحدث ولا بديء، وهذا المحدث لم يزل شيئا من شيء (1)، فقولك: محدث يقين، وقولك: قديم ظن.
ودليل آخر
أنا نجد في هذا المحدث آثار الحكمة بعد عدمها، ويستحيل أن تكون الحكمة الحاثة قديمة أزلية.
ودليل آخر
أنا نظرنا الخلق فإذا هو قد أُكمل وأحكم، وأُنعم عليه وأكرم، فعلمنا أن الإحكام والإكمال لا يكون إلا من مكمل محكم، وأن الكرامة والنعمة لا تكونان إلى من مكرِم منعِم.
ودليل آخر
أنا وجدنا الإنسان فرعاً، ولا بد لكل فرع من أصل، ويستحيل فرع من غير أصل.
ودليل آخر
أنا وجدنا الإنسان ينتسب إلى ذكور وإناث، فإذا أصله على قسمين، وللقسمين نهاية وغاية.
ودليل آخر
يدل على الأصل والفرع من الجدود، أن الموت وقع عليهم، فلم يخل من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون وقع على جميع آبائه الأول منهم والآخر.
وإما أن يكون وقع على بعضهم.
وإما أن يكون لم يقع على أول منهم ولا آخر.
فإن قلت: لم يقع على أحد، فأَوجِدْنا جميع جدودك الأحياء الأولين.
وإن قلت: بل وقع على بعضهم، فأَوجِدْنا الأوائل الباقين أهل القدم منهم.
وإن قلت: بل وقع على أولهم قبل وقوعه على آخرهم، فهذا يدل على أن الإنسان قد وقع عليه الموت.
ودليل آخر
لما وجدنا الإنسان فرعا حيا (2)، والجدود أصولا أمواتاً، لم يخل الموت من أن يكون وقع على الأصل كله، أو لم يقع، فلا يجد بيدا من أن يقول: بل وقع على كل ذكر وأُنثى من الجدود والجدات، وفي إقراره ما كفى إن أنصف عقله.
ودليل آخر
إن قال: ما أنكرتم من أن يكون لم يمت أموات (3) من هذه الأصول، إلا وقبلها أموات إلى ما لا نهاية له (4)؟
__________
(1) سقط من (أ): من شيء.
(2) سقط من (أ): حيا.
(3) سقط من (أ): أموات.
(4) سقط من (أ): له.(1/131)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أوليس قد تقدم فيما مضى من كلامنا أن قولك هذا محال، لأنه ظنٌ، وحدوث الحكمة والنعمة والرحمة يدل على المحدث الحكيم، المنعم الرحمن (1) الرحيم بأيقن اليقين، وقبول العقول أولى من قبول الظن.
ودليل آخر
أنا قد بينا لك أيضا أن قولك متناقض فاسد، لأنك أقررت بالحدث!! ثم نقضت ذلك بقولك: قديم، والمحدث لا يكون قديما كما لا يكون القديم محدثاً.
دليل آخر
لا يخلو قولك لا نهاية للأموات من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن تكون عنيت جميع الأموات.
وإما أن تكون عنيت بعضهم.
وإما أن تكون ظننت ذلك ظنا وتوهما، فإن كنت ظننت ذلك ظنا، فاليقين أولى بالإتباع من الظن، والحق أولى بالتصديق من الباطل، والتعلق بالخيرة أولى من المقام في الحيرة (2)، وإن كنت أردت بقولك: لا نهاية تريد بعضهم، فهذا محال، إذ لا فرق بين أولهم وآخرهم في وقوع الموت عليهم، وانقطاع آجال جميعهم، وتصرم الكل منهم، وإن كنت عنيت بقولك: لا نهاية له(3) جميع الأموات، فهذا محال، لأن الموت وقع على الكل، وللكل نهاية وغاية.
ألا ترى أن الموت قد حوى الجميع ولم (4) يغادر منهم أحدا، ولم يقع الموت على الفرع حتى تضمن أصله، لأنه لم يُفنِ الفرع حتى أفنى الأصل قبله، ولم يفن بعض الأصل بل أفنى كله.
وإن قلت: إنه حدث من غير محدِث، ولا من علة هملا رسلا، فهذا من أحول المحال، وأبطل الباطل وأفسد المقال، لأنه إذا حدث من غير علة ولا محدِث، لم يخل من أن يكون حدث من العدم، أو من نفسه!!
فإن قلت: إنه حدث بإحداثه لنفسه فهذا محال، لما قدمنا من فساد ذلك.
__________
(1) سقط من (أ): الرحمن.
(2) في (أ): التعليق بالخير أولا من المقام في الخير.
(3) سقط من (أ): له.
(4) في (ب): فلم.(1/132)
وإن قلت: إنه حدث من العدم فهذا محال بيِّن الفساد، لأن العدم لا يوصف بالإيجاد، ولأن (1) العدم لا شيء، والفاعل لا يكون إلا موجودا مدبِّرا، حكيما مقدرا، لأن قولك: لا شيء (2) يحدث شيئا نفي للمحدَث والمحدِث، لأن لا شيء عدم، والشيء وجود، والعدم ليس بعامد ولا معمود، ولا شيء سوى اللفظ مقصود، وإنما قولنا: عدم، نريد النفي بهذا الاسم، وإذا كان هذا المحدَث عدما قبل حدوثه، فالعدم لا شيء، ولا شيء لا يكون شيئاً بغير شيء، لأنك إذا قلت: معدوم يقوم (3) بمعدوم، نفيت الجميع، إذ كله باطل محال، وعبث من صاحب المقال، وإلا فما الذي (4) جعل وجود المعدوم أولى من عدمه؟! وما جعل حدوثه أولى من تركه؟!
فإن قلت: إن ذلك من أجل أنه متروك فالمتروك متروك.
وإن قلت: من غير الترك، فذلك الفاعل، الحكيم الجاعل، المتفضل بالتكوين، الخالق بغير معين، الرحمن الرحيم، العليم الحكيم، الواحد الأحد، المفرد (5) الصمد، الذي لا إله سواه، ولا أمد حواه، ولا عين تراه، ولا له مثل (6) ولا نظير، ولا وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير، إلاهنا وسيدنا، وحبيبنا ومعتمدنا، وربنا وخالقنا، ومنشئنا ورازقنا، من لا تُحصى آياته، ولا تنقطع دلالته، ولا تعد نعمه، ولا يتناقض علمه، ولا يستجهل حلمه، ولا يدركه نظر، ولا يحويه قُطْر، ولا يكتنهه ضمير، ولا يحده مصير، ولا يعجزه تدبير.
ودليل آخر
لو حدث لعلة لم تخل تلك العلة من أحد وجهين:
إما أن تكون جسما.
وإما أن تكون عرضا.
فإن كانت جسما فالجسم محدَث ضعيف عاجز، وإن كانت العلة (7) عرضا فالعرض أعجز من الجسم، لأنه لا يوجد إلا بوجود الجسم، ولا يقوم إلا بقوام الجرم، وما لم ينفك من الجسم ولم يكن قبله، فهو بغير شك في الحدوث مثله، وذلك أن الجسم لا يخلو من أحد وجهين:
__________
(1) في (أ): لأن.
(2) سقط من (أ): شيء.
(3) في (أ): بعدم.
(4) سقط من (ب): الذي.
(5) في (أ): المتفرد.
(6) في (ب): مثيل.
(7) سقط من (ب): العلة.(1/133)
إما أن يكون ساكنا.
وإما أن يكون متحركا، وأي المعنيين كان فيه فهو يدل على حدثه (1)، لأنه إن كان ساكنا فسكونه (2) على ضربين:
سكون ماض، وسكون مستقبل.
فالسكون الماضي يدل على مبتداه، والسكون المستقبل فقد ناهاه، لأن ما مضى من السكون له آخر، وما كان له آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول، لأن آخر السكون هو أقل قليل الأوقات، وما مضى منه فهو أوله الكثير، وذلك السكون الماضي الذي هو بزعمهم قديم لا يخلو من أن يكون عَدِمَ كله أو لم (3) يعدم، فإن قالوا: إنه غير معدوم فهذا محال، لأنه قد سكن من الدهور والأزمان ما لا يحصى من ألوف السنين، والألوف فقد عدمت، ولم يعدم آخرها إلا بعد عدم أولها، وإذا صح عدم الجميع فقد صح تناهي السكون الماضي، لأن العدم قد وقع على أوله وآخره، وإذا صح أن له أولا فقد بطل قدمه وثبت حدثه (4)، وإذا بطل قدمه وثبت حدثه (5)، فقد صح حدث الجسم، إذ لم يسبقه ولم يتقدمه.
ودليل آخر
قالوا لما نظرنا إلى الجبل ساكنا غير زائل، علمنا أنه لم يسكن وقتا إلا وقبل الوقت وقت إلا ما لا نهاية له ولا غاية (6)، وهذا محال بيِّن الإحالة عند من عقل، لأن سكون الجبل على قسمين:
قسم قليل.
وقسم كثير.
فالقسم القليل موجود وهو المستقبل، لأنك إذا نظرت سكونه انتظرت أن يسكن بالمشاهد أقل مما سكن قبل ذلك فيما مضى من الدهور، لأنه قد سكن فيما مضى ألوف سنين (7) لا تحصى، فأنت قد شاهدته لأنه موجود، ولم تشاهد الألوف لأنها قد (8) عدمت كلها، وذهب أولها وآخرها، وللكل نهاية وغاية، وإذا صح تناهي السكون وانقطاعه، وعدم آخر السنين بعد عدم ما قبلها، فهو على ضربين معدومين:
سكون قبل سكون.
وسكون بعد سكون.
__________
(1) في (ب): حدوثه.
(2) في (ب): كان سكونه.
(3) في (أ): كله لم.
(4) في (ب): حدوثه.
(5) في (ب): حدوثه.
(6) سقط من (أ): ولا غاية.
(7) في (ب): وسنين.
(8) سقط من (أ): قد.(1/134)
وكل (1) ذلك قد مضى، وتضمنه العدم والفناء، وما صحت نهايته وعدم أوله وآخره فله أول معدوم، وما كان له أول فهو محدَث، وإذا صح حدث (2) سكون الجبل فالجبل محدَث، إذ لم يسبق سكونه بزعمهم.
ودليل آخر
إذا صح أن سكون الجبل أولا قد عدم، لم يخل ذلك السكون الأول من أن يكون قليلا أو كثيرا، فإن كان قليلا فأقل السكون بعض ساعة، وإن كان كثيرا فالكثير من السكون لا يكثر إلا بعد قلته، ولا يزيد إلا بعد نقصانه، ولا يوجد إلا بعد عدمه، ولا يوجد آخره إلا بعد عدم أوله، وأوله (3) أقل القليل.
ودليل آخر
إذا كان الكثير من سكون الجبل لا يوجد إلا بعد العدم، فالقليل أحرى بأن لا يوجد إلا بعد العدم (4)، وإذا عدم جميع ما مضى منه فالعدم قد وقع على الكل، والفناء قد تضمنه وحوى أوله قبل أن يحوي آخره، وإذا حوى الآخر الكثير، لم يكن ذلك إلا بعد أن مضى على الأول اليسير.
ودليل آخر
إذا قلت: لا أول لسكون الجبل، سألناك هل له آخر؟!
فإن قلت: ليس له آخر، جحدت الجميع.
وإن قلت: بل له آخر بلا أول. سألناك هل قبل الآخر سكون أم لا؟!
فإن قلت: ليس قبله سكون أوجبت حدثه.
وإن قلت: بل (5) قبله سكون. سألناك أهو موجود أو معدوم؟!
فإن قلت: موجود، أَحَلْتَ، لأنك لا تجد سكونه ألوف السنين (6) في ساعة واحدة.
وإن قلت: بل هو معدوم أوجبت عدم الجميع.
ودليل آخر
إذا قلت: لا نهاية للمعدوم. سألناك هل عدم كله أو (7) بعضه؟!
فإن قلت: لا كله ولا بعضه، جحدته ونفيته.
وإن قلت: عدم بعضه. سألناك أين الباقي من ما مضى من ألوفه؟!
ودليل آخر
__________
(1) سقط من (ب): وكل.
(2) سقط من (أ): حدث.
(3) سقط من (ب): وأوله.
(4) سقط من (أ): فالقليل أحرى بأن لا يوجد إلا بعد العدم.
(5) سقط من (أ): بل.
(6) في (أ): سنين.
(7) في (ب): أم.(1/135)