فإن قلت: إنها لم تزل تهوي وتحرك سفلا، مما لا نهاية له من الأجواء.
أو قلت: إنها تحركت في حال أزليتها علوا مصعدة، مما لا نهاية له من الهواء.
أو قلت: إنها تحركت من المشرق مما لا نهاية له، أو من المغرب إلى المشرق فما لا نهاية له، أو من اليمن مما لا نهاية له، أو من الشام إلى اليمن مما لا نهاية له أيضا.
فالجواب لك في ذلك وبالله توفيقنا: أنا أنكرنا ذلك، لأنها لا تخلو في مسيرها من أي الجهات كانت حركتها من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها:
من أن تكون قطعت بحركتها أماكنا متناهية.
وإما أن تكون قطعت أماكن لا نهاية لها.
وإما أن تكون لم تقطع بحركتها شيئا.
فإن قلت: إنها قطعت بحركتها أماكن لا نهاية لها أَحَلْتَ وناقضت، لأنك قلت: قطعت بحركتها أماكن، فأوجبت نهاية الأماكن بقطع النجوم لها، لأن المقطوع متناهي، ثم نقضت قولك بقولك: لا نهاية لها، فأوجبت نهاية الحركة، إذ لم تكن الحركة إلا في الأماكن المقطوعة المتناهية، لأن القطع للأماكن لا يكون إلا ببدء الحركة.
وإن قلت: إنها قطعت أماكن متناهية، أوجبت نهاية الحركة، لأن الحركة لم تكن إلا في مكان، والمكان مقطوع، والمقطوع متناهي.
وإن قلت: إنها لم تقطع بحركتها شيئا، لم تخل من أحد وجهين:
إما أن تكون حركتها هذه كاختلاج العروق في أماكنها، أو سيرا من مكان إلى مكان، فإن كانت حركتها من مكان إلى مكان، وقولك لم تقطع شيئا محال، لأن السائر منها لا يكون إلا قاطعا بحركته للهواء، وإذا تحركت النجوم وسارت، فلا بد أن تقطع ما عبرت.(1/111)


وإن قلت: إن حركتها كاختلاج العروق في محلها، فقد حددت الحركة وناهيتها، لأنك زعمت أنها كانت تختلج في مواضعها، ثم انتقلت عن الاختلاج فانقطع منها، لأنها لما زالت عن ذلك المكان بطل اختلاجها، وثبتت حركتها وجريها، وإذا انقطع اختلاجها فقد تناها، لأن الحركة أتت بعد انقطاع أوله وآخره، وأيضا فإنه لا يخلو ما انقطع من اختلاجها من أن يكون عدم جميعه أم لا، فلا يجد بدا من أن يعلم علما يقينا أن جميع ساعات الاختلاج قد بطلت، وعدمت جميعا بعد ما حدثت.
والجواب في حدث حركات الرياح وهبوبها، كالجواب في حركات النجوم في طلوعها وغروبها، وقطعها للأماكن المتناهية بمسيرها، وبيان الحدث في حركتها وتسخيرها، وإذا صح حدث الحركة والسكون، صح أن صانعهما ومحدثهما بخلافهما، وأنه ليس بمتحرك ولا ساكن، لأنه لو كان متحركا أو ساكنا لكان محدثا، وأنه لا يعقل ولا يعرف شيء من الأشياء، إلا بأن لهذه المحدثات صانعا بخلافها، وأنه عز وجل أولى بكل ما حسن من الصفات، وأحق بالتنزيه عن شبه المحدثات، ومن أكرم صفات العلم.
والعلم فهو ذاته.(1/112)


والدليل على أنه عالم أنا وجدناه مصلحا حكيما، والحكمة لا تتم للجهال، وأيضا فإن الجاهل ممنوع من العلم، والله ليس له مانع، لئن الممنوع مصنوع، والله صانع، وإذا انتفى عنه أن يكون ممنوعا، أو يكون مدبرا مصنوعا، صح أنه لم يزل من الجهل ممتنعا، وإذا لم يزل بريا من الجهل والنقصان، فعلمه قديم بأبين البيان، وإذا كان علمه قديما أزليا، وكان من تأليف الغير إليه بريا، صح أن علمه هو ذاته، وكذلك قدرته وحياته، لأنه سبحانه لم يزل قادرا حيا، سمعيا بصيرا قويا، وسمعه وبصره فهما: علمه، وعلمه فهو: قدَمُه سبحانه، وقدَمُه وعلمه: حياته، وحياته: قدرته، وقدرته: ذاته، وذاته: حقيقته، وحقيقته: وحدانيته، وحقيقة كلمته التي هي من صفات الذات هي: علمه سبحانه بجميع المعلومات، وحقيقة حكمته عز وجل في صنعه لمحدثات هي: إتقانه لما صنع من المحكمات، التي لا تهيأ إلا بالحكمة الأزلية، والصفة السابقة الأولية، وحقيقة عدله: إحسانه، فمن وصفه بالإحسان فقد عدَّله، ومن نسب إليه القبيح فقد جَوَّره.
وحقيقة رحمته لأوليائه: ثوابه، وحقيقة غضبة على أعدائه: عقابه، وحقيقة كرم ذاته: عظمته، وعظمته: قدرته، وحقيقة كرم فعله: نعمته، وحقيقة عدله في البلوى: تكليف ما يطاق، وحقيقة عدله في التكليف: إظهار الحسن من أفعال عباده، وإظهار الحسن: خير من تركه، وحقيقة عدله في الأمر: بإظهار الحسن، لأن إظهار الحسن عاقبة حسنة من ثوابه، وحقيقة عدله في خلق الكافر: أنه لم يخلق كفره، بل نهاه عنه وزجره، وأوعده على فعله وحذره، وحقيقة حكمته في خلقه لمن علم بمعصيته: أن خلقه لجسم العاصي وعقله، وحياته بعد موته وايجاده بعد عدمه حكمة جليلة، ونعمة عظيمة، وفعل النعمة والحكمة خير من تركها.(1/113)


وأيضا فليس يجب على الحكيم أن يترك الحسن من فعله، لعلمه بقبح القبيح من فعل غيره، وليس علمه بمعصية العاصي يدخله في معصيته، ولا علمه يجبر المطيع بجبره على طاعته، وليس يثيب ويعاقب على علمه، وإنما يثيب العبد أو يعاقبه بفعله، لأن العلم هو الله عز وجل، وليس يثيب الله على نفسه، وإنما يثيب العبد على حسن فعله وطاعته.
فإن قال قائل: فلم لم يجبر عباده على الطاعة كلهم؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لأنه لو جبرهم على الطاعة، لكانت الطاعة فعله لا فعلهم، ولما استحقوا المدح على فعل غيرهم، وحقيقة عدله في سقم عباده وإمراضهم وموتهم، أن المرض والألم يدعو إلى الخوف من العذاب، والخوف يدعو إلى النعمة والثواب، ولو أمنوا الموت والإنتقام، وشفوا من الأمراض والآلام، لعظمت ذنوبهم، ولهلك بسبب الأمان أكثرهم، ولقل خوفهم، وهاهم اليوم مع قصر أعمارهم قد عظم هلاكهم، وجل ظلمهم وضلالهم، فكيف لو أهملهم من ذلك وأنظرهم، ولكنه جاد علينا بذلك لعلمه بضعفنا، وأغاثنا به على جهاد أنفسها، لأنا وجدنا الخوف يمنع من اللذات، ويشغل عن فعل السيئات، ويدعو إلى فعل الحسنات، ويدعو إلى الأقصار عن الموبقات.
والدليل على أن للصانع رسولا أنه حكيم، والحكيم لا يهمل خلقه من الأمر بالخيرات، والنهي عن المنكرات، ولا يكون ذلك إلا كلاما مسموعا، فوجب أن يرسل إليهم رسولا مسمعا، وحقيقة عدله في ذبح البهائم وإحلالها، أن لها على ذلك ثوابا في آخرتها، وليس ألم البهائم وإتعابها إلا دون ألم الأخيار وموتها، وحقيقة عدله ونفي الجور عنه، أنه غني عن الجور غير محتاج إليه، وأنه عالم بقبحه، وإذا كان عالما بقبحه غنيا عنه لم يفعله، وحقيقة الدليل على البعث أن الصانع حكيم، والبعث والحياة خير من موت الأبد.
ودليل آخر
أنه لم يخلق الخلق إلا لينفعهم بالبقاء، إذ لا منفعة في الهلاك والفناء.
ودليل آخر(1/114)


أن موتهم بالكلية لا ينفعه ولا ينفعهم، وشيء لا ينتفع بفعله لا يكون من فعل حكيم.
ودليل آخر
أن بعثهم بعد موتهم لا يؤوده ولا يعجزه، وإذا لم يعجز عن فعل الخير وجب عليه فعله.
ودليل آخر
أنه أمر ونهى فأطاعه قوم وعصاه آخرون، وقد وعد من أطاعه بالثواب، وأوعد من عصاه بالعقاب، ثم انقضت آجال المطيعين ولم يثابوا، وانقضت آجال العاصيين ولم يعاقبوا، فعلمنا أن ثَمَّ دارا غير هذه الدار، يثاب فيها المحسنون، ويعاقب فيها المسيئون، لأن المطيع يجب له الثواب، وكذلك يجب على أهل المعصية العقاب، لأن الحكيم لا يخلف الميعاد، لأنه غني عن إخلاف وعده ووعيده.
ألا ترى أن المخلف لوعده إنما يخلفه لأحد ثلاثة أوجه:
إما لاجتلاب منفعة.
أو دفع مضرة.
أو عبث وسفه.
فاجتلاب المنافع واللذات، لا يكون إلا للمحدثات، لأن لذة المنفعة لا تصل إلا إلى كل شيء أو بعضه، والكل والبعض لا يكون إلا مخلوقا محدثا، ومربوبا مدبرا، لأن المحتاج المضطر لا بد له من مانع منعه من الغناء والسعة والجاه، واضطره إلى الحاجة، وكذلك الدافع عن نفسه للمضار يكون محتاجا إلى الدفاع عن نفسه، ملجأ مضطر إلى الخوف من هلكته، ومن كان مضطرا ضعيفا خائفا، لم يكن ربا ولا خالقا، لأنه محل للخوف واللذات، وملجأ إلى المحن النازلات، غير آمن من المهلكات، فهاتان صفتان للمخلوقين، يتعالى عنها رب العالمين، وفاطر السماوات والأرضين، وخالق الخلق أجمعين، ومجيب المضطرين، وأرحم الراحمين، وأعظم الأعظمين، وأكرم الأكرمين.(1/115)

23 / 58
ع
En
A+
A-