قيل له ولا قوة إلا بالله: لأن بطلان موتها يدل على حدوثها، وذلك أنها بزعمك قد أقامت ميتة دهورا طويلا، وإذا كانت كما زعمت فللدهور نهاية وغاية، لأن الدهر محدث وما لم ينفك منه فهو مثله في الحدث، لأن الدهر قد انقطع كل ما مضى منه، ولم ينقطع إلا بعد حدوث كل ساعة من ساعاته.
ودليل آخر
أن الطينة إذا كانت لم تزل ساكنة ثم تحركت، فقد انقطع آخر سكونها، ولم ينقطع آخره إلا بعد انقطاع أوله، وإذا صح انقطاع أول السكون وآخره، فقد انقطع كله، وإذا انقطع كله فله نهاية وغاية، وإذا صح أن لسكونها أولا وآخرا فقد انقطعا، فقد صح حدوث السكون، وإذا صح حدوثه فقد صح حدث الطينة، إذ لم يشبه ولم يوجد إلا بوجوده.
وكذلك إن سأل عن الدليل على حدث ما مضى من حركات السحاب والبرق والرياح والأنهار، والنجوم والجمادات من الأشجار؟
فالدليل على حدوث ذلك أنا نراه لا يكثر إلا بعد قلته، ولا يزيد إلا بعد نقصانه، فإذا نظرنا في ذلك علمنا أن ما مضى من الحركات لا يحصى، وأنه كائن بعد حدوثه عدما، وما صح حدوثه وصح عدم جميعه فقد تناها، لأنه على حالين متناهيين محدثين، وهما الحدوث والفناء، والحركات لن تنفك منهما.
فإن ادعا أن قبل الحركات سكونا قديما؟(1/106)
قيل له ولا قوة إلا بالله: أليس تعلم أن السكون قد انقطع آخره وأوله بعد حدوثهما، وبطلان جميع دهورهما، فهذا دليل على حدوث جملة جميع الحركة والسكون، وقد زعم بعض الملحدين أن الفلك مدبِّر قديم، وأنه لا أول لحركته ولا غاية، ولا بُدأ لها ولا نهاية، وأن النجوم لم تزل تحرك ولا تغير وتطير، تقترن أبداً، وبدبر وسنين من فساد قولهم إن شاء الله تعالى ما فيه مقنع لذوي الألباب، ودلالة شافية على الله رب الأرباب، فاسمعوا - رحمكم الله - بقلوب سوية، وألطفوا النظر فيما نقول بعقول جلية، فنقول ولا قوة إلا بالله: إن النجوم في أنفسها محدثة مدبرة، ومخلوقة بمشيئة الله مقدرة، ومبرية مصنوعة مصورة، وذلك أنا نظرنا في جميع حالاتها، فإذا هي تدل على صانعها من قِبَلِ أجسامها وحركاتها، فأول ما نبدأ إن شاء الله تعالى بذكر حركة الفلك ومسيره، فنقول: إن النجوم لا تخلو في جريها من أحد أربعة أوجه لا خامس لها:
إما أن تكون جرت فوق الأرض في جو السماء، قبل أن تجري في الفلك تحتها.
وإما أن تكون جرت تحت الأرض قبل أن تجري فوقها.
وإما أن تكون لم تبدأ بالحركة قبل أن تجري من تحتها ولا من فوقها.
وإما أن تكون بدأت بهما معا في حال واحد.
فإن قلت: إنها بدأت بالحركة من فوق الأرض قبل أن تجري تحتها، ناهيتها وأقررت بحدثها من الفوق قبل التحت، وجعلت بُديها بالحركة من أحد المكانين قبل الآخر.
وإن قلت: إنها بدأت بالحركة من تحتها قبل أن تحرك فوقها، ناهيتها أيضا وجعلت الحدث كان من التحت قبل الوصول إلى الفوق.
وإن قلت: إنها جرت في الفوق والتحت معا في حال واحد، لأن الفوق غير التحت، والتحت غير الفوق، فكل نجم مما ذكرنا لا يخلو من أن يكون سار من الفوق إلى التحت، أو من التحت إلى الفوق، أو لم يسر من أيهما.(1/107)
وإن قلت: إن النجوم لم تبدأ بالحركة من فوق الأرض ولا من تحتها، جحدت حركتها وأبطلتها، وادعيت عدمها، لأنه لا يوجد إلا فوق الأرض في جو السماء، أو تحت الأرض في بعض الهواء. فهذا والحمد لله دليل واضح على بُدأ حدثها وجريها، وإبطال ما قيل به من قدمها، والله المستعان، وهو حسبنا وعليه التكلان.
ودليل آخر
أنا نجد النجوم على حالين وهما الطلوع والأفول، ولا تخلو من أحد وجهين فيما مضى من الأزمة:
إما أن تكون تطلع وتأفل.
وإما أن تكون لم تطلع ولم تأفل.
فإن قلت: لم تطلع ولم تأفل جحدت حركتها، وإن أقررت بالطلوع والأفول، لم تخل من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن تكون طلعت قبل الأفول.
وإما أن تكون أفلت قبل الطلوع.
وإما أن تكونا جميعا في حال واحد.
فإن قلت: إنها بدأت بالطلوع قبل الأفول، أقررت بمحدث الحركة من الطلوع قبل الغروب.
وإن قلت: إنها بدأت بهما معا في حال واحد، أَحَلْتَ، وأقررت بالحدث وناقضت، وجعلت الطلوع أفولا، والأفول طلوعا، ولزمك أن تجعل الليل نهارا، والنهار ليلا، والوجود عدما، والعدم وجودا، والباطل حقا، والحق باطلا.
ودليل آخر
أن الذي مضى من الحركة على حالين: طلوع قبل غروب، وغروب قبل طلوع، وللقبل والبعد نهاية وغاية، لأنهما يدلان على الزيادة بعد النقصان، والنقصان يدل على القلة قبل الكثرة، لأن الحركات لم تكثر إلا بعد قلتها، ولا تزيد إلا بعد نقصانها، والزيادة بعد النقصان تدل على نهاية الزائد الذي كان ناقصا قبل زيادة ما زاد فيه.
ودليل آخر
إما أن يكون ما مضى من طلوعها أكثر مما مضى من غروبها.
وإما أن يكون ما مضى من الغروب أكثر مما مضى من الطلوع.
وإما أن يكونا سواء سواء.(1/108)
فإن قلت: إن الطلوع أكثر من الغروب، أو الغروب أكثر من الطلوع فيما مضى، جعلتهما متناهيين، إذا كانا متفاوتين، ألا ترى أن الطلوع إن كان أكثر بمدة فللمدة نهاية وغاية، لأن النجم إذا كان ما مضى من طلوعه أكثر ثمرة أتشيا عند غروبه، وإذا أتشيا فللتسوية نهاية وغاية، وإذا كانا منشقين مرة ومختلفين أخرى، فقد صح تناهيهما إذ لم يخلوا مما ذكرنا.
ودليل آخر
أن الذي مضى من حركة النجوم هما الحالان اللذان ذكرنا، وما مضى من الأشياء فقد تعد وتقضى وما نفد فقد انقطع، وما انقطع فقد تناها.
ألا ترى أن الذي مضى طلوع وغروب، وكلٌ فقد عدم وتناها.
ودليل آخر
أن حركات النجوم لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن تكون موجودة.
وإما أن تكون معدومة.
فإن قلت: إنها موجودة أَحَلْتَ، لأن حركتها في الأيام التي مرت على القرون الأوائل، غير حركتها في الأيام التي مضت علينا، لأن الدهور التي كانت فيها أصولنا، هي غير الدهور التي فيها اليوم فروعنا، لأن تلك أيام عدمت، وهذه أيام حدثت، وهذا فما لا يقول بغيره عاقل.
وإن قلت: بل ما مضى من الحركات معدوم، فقد أقررت بالحق، وما عدم فقد تناها.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الحركات تحدث وتعدم إلا ما لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: مسألتك تحتمل وجهين:
إما إن تكون عنيت ما هو الآن يحدث ويدور.
وإما أن تكون عنيت ما مضى وفني بعد حدوثه، فذلك متناهي، لأنه على حالين متناهيين، الحدوث ثم الفناء، وما يصح فناء كله بعد حدوثه كله، فله نهاية وغاية، وإن كنت تريد بقولك: لا نهاية له ما هو الآن يدور من الحركات، فليس يعقل تناهيه وانقطاعه إلا من المسموع، وقد أخبر الله في كتابه بانتثار الكواكب وانكدارها، وسقوطها حيث يريد وانحدارها.
ودليل آخر
إما أن يكون ما مضى من جري الشمس في المنزلتين اليمانية والشهامية موجودا.
وإما أن يكون معدوما.(1/109)
فإن قلت: إنه موجود أَحَلْتَ، لأنها جرت على المنزلتين دهور مضت قبل حدوثنا بأزمنة مالا يحصيه إلا خالقها.
وإن قلت: إنما مضى من جريها معدوم تناها جريها، لما قدمنا من بيان تناهي المعدوم، لأن الذي مضى من جريها على حالين: حال في المنزلة اليمانية، وحال في المنزلة الشامية، وللحالين الماضيين النافذين نهاية وغاية، وأيضا فقد يدل حدث حركات النجوم في المشرق والمغرب أنها ذات عدد، والعدد على وجهين متناهيين: وهما الشفع، والوتر، ولا يخلو ما فني وعدم من هذه المرار، وحساب الحركات والتكرار، من أن تكون شفعا أو وترا، وللشفع والوتر نهاية وغاية، لأن الشفع هو الأزواج، والوتر هو الفرود من الحساب، وقد عدم الجميع مما مضى، وتضمنه العدم والفناء.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون قبل هذه الحركة ساكنة، ثم وجدت بعد سكونها القديم متحركة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك من قدم السكون الذي ذكرت، لأنها لا تخلو في حال سكونها من أحد وجهين:
إما أن تكون سكنت دهورا كثيرة.
وإما أن تكون سكنت دهورا قليلة.
وللكثير والقليل نهاية وغاية، وقد قدمنا الدليل على حدث الدهر وغايته، وانقطاعه بعد حدوث ساعاته، والحركة والسكون فهما حالان محدثان لا ينفك الجسم منهما، وهما حقيقة الزمان، وما كان مضطرا إلى حالين محدثين لا يجد من أحدهما بدا، ولا عنهما معا بددا، فلا يدله مِن بانٍ بناه عليهما، واضطره في الشاهد إليهما.
فإن قال: ما أنكرت من أن تكون النجوم تحركت قبل هذه الحركة التي دللت على انقطاعها، بحركة لم تزل من طباعها؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك لأنها لا تخلو من أن تكون تحركت في بعض الجهات، أو لم تحرك في شيء منها.
فإن قلت: لم تحرك في شيء منها جحدتها، لأنها لا توجد إلا في أماكنها من الأهوية أو من غيرها.
وإن قلت: إنها تحركت في بعض الجهات، فالجهات معروفة، وهي الفوق والتحت، والمشرق والمغرب، واليمن والشام.(1/110)