فإن قال: ليس في ذلك حكمة خرج من المعقول، وبان كذبه لجميع أهل العقول، لأن جميع الحِكم تقصر عما ذكرنا، ولا تماثل حكمة مولانا وسيدنا، ولو جاز كون حكمة من غير حكيم، وعلم ورحمة من غير عليم، لجاز كون رسول من غير مرسل، وأمر ونهي (1) من غير ناه ولا آمر، ولو جاز ذلك لسُمع كلام من غير متكلم، ولوجد تعليم من غير معلم، وتفهيم وبيان من غير مبين مفهم، ولو جاز ذلك لجاز أن يوجد ثواب وعقاب، من غير مثيب ولا معاقب.
ولا يخلو الفعل فيما ذكرنا من صنع الله في الحيوانات، وما ركب في الأجسام من الآلات والأدوات، والآيات المحكمات النيرات، من أن تكون شاهدا على أنها من حكيم، أو شاهدا على أنها من غير حكيم، أو غير شاهد على شيء من ذلك، فإن كان شاهدا على أن الحكمة من غير حكيم، أمكن أن يُشهد على علم من غير عليم، وحلم موجود من غير حليم.
وإن شهد بذلك لم يُسمَّ عقلا، وخرج من الصحة فعاد جهلا، لأن العقل لا يجوز عليه شيء من المحال، ولا يقبل ما فسد من المقال، وإن لم يشهد على شيء من ذلك خرج من تمييز الأمور ولم يفرق بين الخيرات والسرور، وإذا خرج العقل من التمييز فهو زائل فاسد، وما كان من العقول فاسدا، لم يكن عدلا ولا شاهدا.
وإن شهد على أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، صح ذلك لأن الحكمة لا تهيأ إلا من عليم.
وإن رجع إلى مكابرته، وتردد في شكه وضلالته، فقال: ليس في ذلك حكمة!!
قيل له ولا قوة إلا بالله: هل تعرف الحكمة أم لا؟
فإن قال: إنه لا يعرفها أصلا، وادعا في معرفتها جهلا، كان لما ذكرنا من الجهل أهلا.
وإن قال: إنه يعرف الحكمة.
قيل له: ما الحكمة في ذاتها؟ وما حقيقة صفاتها؟
فإن كان جاهلا بها بطل ما ادعا من معرفتها، وإن كان عالما أجاب، وقصد إلى الحق والصواب، فقال: الحكمة ما أتقن من الأمور، وبعد من الفساد والشرور.
__________
(1) في المخطوط: وناه. ولعل الصواب ما أثبت.(1/101)


فإذا قال ذلك، قيل له: ويحك ما أجهلك!! وأعظم كفرك وأغفلك!! تقول: إن الحكمة ما حَسُنَ من الأفعال، وبعد من الجهل والضلال، ثم تزعم أن ليس فيما ذكرنا حكمة من أعاجيب الصنع الجليل، وما بيَّن الله من الدليل، وأقام على ذلك من شواهد العقول، لأن الحكمة لا تهيأ إلا بالحلم، ولا تتم إلا بالعلم من ذي الجلال والإكرام.
ودليل آخر
لا يخلو صانع هذه الحكمة من أن يكون حيا قديما. وإما أن يكون حيوانا، وإما أن يكون مواتا، فإن كان حيوانا فهو كسائر الحيوانات، في العجز عن دفع الآفات، ونوازل المحن المحدثات، وسُلب ما يحب من الحياة، وبيان الصنع فيه والدلالات، وإن كان مواتا فهو كسائر الجمادات، من التُّرب والحجارة وغيرهما من الموات، والأجسام الجامدة المغفلات، ويستحيل أن يكون ذلك وما جانسه من المدبرات، خالقا لشيء من الحيوانات، وإن كان حيا مدبرا قديما، فقد صح ذلك، لأنه لو كان ميتا لما كان حكيما، ولما كان قديرا ولا عليما.
ودليل آخر
أنا قد أحطنا بجميع الأشياء علما، وأدركناها عيانا وفهما، فلم نجدها إلا على حالين محدثين، ومدبرين بمشيئة الله مصنوعين، وهما الحركة والسكون اللذان لا ينفك منهما شيء موجود، وإذا صح حدثهما، وصح أن جميع الأشياء لم تنفك منهما ولم تكن قبلهما، فهي في الحدث مثلهما، وسيبلها سبيلهما.
والدليل على أن جميع الأشياء لا تنفك منهما، ولا توجد قبلهما، أنها لا توجد إلا زائلة متحركة، أو مقيمة ساكنة، فإن زالت فزوالها حركة، وإن أقامت ولبثت، فالسكون هو لبث وإقامة.(1/102)


والدليل على أن الحركة والسكون معنيان، وشيئان غير الأجسام متغايران، أنا نجد الحركة تكثر من الشيء الواحد، فلا تكثر لكثرها، وتقل تارة فلا تقل لقلتها، وتزول تارة فلا تزول لزوالها، ولا تبطل لبطلانها، مثل حركة النجم التي لا تحصى لكثرتها، والنجم واحد محدود، وحركته معدوم ما مضى منها، وهو بعينه باق موجود، ونجد السكون كذلك يكثر أيضا حتى لا يحصى، والساكن معروف بحدوده وأقطاره، موجود في محله وقراره، مثل الحجر التي لا تحصى ساعات سكونها، فكم من ساعة لا تحصى قد سكنت!! وكم من يوم وليلة قد لبثت!! فتلك الساعات قد عدمت، والحجر موجودة ما برحت، والحركة والسكون على الجملة دهور وأزمان، وعلى التصنيف صنوف وأفنان، وكل ذلك دليل على حدث الأجسام، وبيان على فساد دعاوى الدهرية الطغام، وأشباه عجم الأنعام، وأهل التَّكَّمُّه في الأإلام، وسندل إن شاء الله تعالى على فساد قولهم، ونوضح من حدث الدهر ما عموا عنه بجهلهم.
فإن سأل سائل منهم فقال: ما الدليل على حدث ما مضى من الدهور، والأيام والليالي والشهور؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدوث ما مضى من الدهر وأزمانه، أنه لم يحدث ساعة إلا بعد حدوث ما قبلها وبطلانه.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون ما مضى من الساعات ساعة قبل ساعة إلى ما لا نهاية له؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن ما مضى من الساعات لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون عدم وبطل بعد حدوثه.
وإما أن يكون الآن موجودا كله.
فإن قلت: إن ما مضى من الحركة والسكون موجود فهذا محال، لأن ما مضى من الساعات التي هي السكون والحركات فقد عدم كله، بعد حدوث كل ساعة منه، وإذا عدم كله بعد حدوثه فهو محدث، لأن الساعات التي مضت، والأزمان التي بطلت، على حالين:
حال وجدت فيه بعد عدمها أوجب حدوثها، وحال عدمت فيه بعد وجودها.(1/103)


فأما الحال الذي كانت فيه موجودة، فهو حدوثها إذ حدثت، وأما الحال الذي عدمت فيه، فهو وقتها إذ تصرمت قبله بعد حدوثها فعدمت، وإذا صح عدم جميع ما مضى، وتصرم بعد حدوث كله وانقضى، فقد صح ما قلنا به من ذلك، إذ هو في الحدوث كذلك، وإذا صح حدوث الدهر الذي هو كثرة الحركات والسكون، اللذين لم تنفك الأجسام كلها منهما، فسبيله في الحدث سبيلهما، وفي هذا ما قطع أهل الإلحاد والجحود، ودمغ إن شاء الله أهل الكفر والعنود.
وسنزيد بعون الله بيانا، ونوضح إن شاء الله صنع الله لسائلنا بعد إيضاح حملة الدهر وكليته، وكرور أيامه وساعاته، وتبيين صنوفه وأفنانه، ومحاله من الصنع وبيانه. فنقول: إن الحركة أولى ما نحتاج إلى ذكره، إذ هي مشتملة على حدث السكون وغيره، وذلك أن محال الحركة في صنوف من الأجسام، وأماكن من الموات والحيوان، وذلك مثل حركة النجوم والبروق والسحاب، ومثل حركة الأشجار والرياح الهواب، ومثل حركة أمواج البحار، وجري خف التراب والأنهار، وغير ذلك مما يتحرك من الجمادات في الليل والنهار، ومن الحركة ما يحل في الحيوانات، وسنبين إن شاء الله تعالى حدوث جميع الحركات، وما يحل منها في كل حيوان أو موات، فأول ما نبدأ بذكره: حركة الحيوان.
فإن سأل فقال: ما الدليل على حدث حركة الحيوانات وما تنكرون من أن تكون حركات قبل حركات، إلى مالا يتناها من الأوقات؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: دلنا على حدث ما عنه سألت، وفساد ما ظننت وتوهمت، أنا قد بينا لك حدوث الحيوانات فيما تقدم من كلامنا، وأوضحنا نهاية الأوقات في أول قولنا.
ودليل آخر(1/104)


أن حركة الحيوانات الأوائل المتقدمة التي زعمت أنها غير متناهية، لا تخلو من أن تكون الآن كلها موجودة، أو هي الآن معدوم وبها معدومة، فوجود ما مضى من حركات الأولين محال، لأنهم إنما تحركوا قبل موتهم في قيامهم وقعودهم، وإقبالهم وإدبارهم، وتنقلهم وسيرهم، والقيام والقعود فغير موجودين، بل يكونان عند جميع الخلائق معدومين، وإذا صح عدم جميع الحركات، التي ذكرنا تولدها من أجسام الحيوانات، فقد صح تناهي أجسامهم، لأن أجسامهم لم تنفك من حركاتهم، وللحركات نهاية وغاية وحال عَدِمَ فيه جميعها فانتفى عنها العدم.
ودليل آخر
أن جميع الحيوانات لم تنفك أصولها من الحياة، ثم قد وقع الموت على جميعها، فهي في حالين محدثين، حال أحييت فيه بعد موتها فحييت كلها، وحال أميتت فيه فماتت جميعه، وإذ لم تنفك من الحالين المحدثين فهي محدثة مثلهما، إذ لم توجد ولم تكن قبلهما، وسبيلها في الحدث سبيلهما، إذ تضمنا أصول الحيوانات فلم تخرج منهما، فكيف لا تتناها الأصول وقد حوت الحياة جميعها، ثم تضمنها الموت بعد حياتها.
فإن قال: وما أنكرت أن تكون طينة العالم قديمة لم تزل ميتة، ثم حييت وانتقلت عن سكونها فتحركت؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا قدمها الذي ذكرت، لأنها إذا كانت ميتة كما زعمت، ثم حييت بعد موتها فذلك دليل على محييها، لأن الحياة من أكثر النعم وأجلها وأعظمها، ولا بد لكل نعمة من منعم، ويستحيل أن يكون الكرم من غير متكرم، إذ في الحيوان من الحكمة مالا يتم إلا لعالم، كما يستحيل أن يكون الكلام المحكم من غير متكلم.
ودليل آخر
إذا كانت الطينة بزعمك لم تزل ميتة ثم بطل موتها، فقد بطل قدم الموت، والقديم لا يبطل.
فإن قال: وما أنكرت من بطلانه؟(1/105)

21 / 58
ع
En
A+
A-