حسبي الله وكفى ونعم الوكيل، والحمد لله الذي ابتدأنا بالهدى، واستنفذنا من الضلالة والردى، نحمده على ما كثر من الدلائل عليه، والدواعي التي دعت أولياءه إليه، فمن استدل بها عليه نظره، ومن قصر عن فهمها لم يره، فأي دلائل على الله ما أدلها!! وأعظم قدرها وأجلها!! لقد بهرت عقل من عرفها من المؤمنين، ودلت من أيقن بالله من المستدلين، واضطرت العقول إلى رب العالمين، فدلائل الله عليه منيرة لا تطفأ، وشواهد صنعه ظاهرة لا تخفى، تدل من فكر في صنع الله وتدبيره، ومعجز فطرته وتقديره، ولا يكفر بدلائل الله وتبصيره، من اشتغل عن وعظه وتذكيره، وأقبل على لهوه وفجوره، وأنى يظفر بدلائل الله من أقبل على اللهو والمحال؟! وقل خوفه من الكبير المتعال، كلا لن يظفر بذلك من اشتغل عن آخرته بدنياه، وصد عن الله واتبع هواه، ولن يكون ذلك بالله من العارفين، ولا إليه من الهادين، ولا عنده من المقبولين.(1/96)


ومن لم يكن لله من العارفين، لم يكن أبدا من المطيعين، ومن قصد إلى دين الله ورغب في طاعته، وهو مختار لترك طلب الأدلة إلى معرفته، ورضي بجهله وغفلته، كان داخلا في الجهل بمعصيته، ومن كان بالله جاهلا، وعن دلائله غافلا، لم يكن عنده من المؤمنين، ولا به من الموقنين، إذ رضي بالجهل والنقصان، واشتغل عن المعرفة والإيقان، فهو في صفات الله متحير جاهل، وعن الدلائل عليه مستوهل ذاهل، إن عسف النظر في ذلك ارتطم في الضلال، وإن رضي بجهله فهو من أجهل الجهال، لا يملك لقلبه جنة من الشيطان، ولا يؤمن عليه الدخول في محضور ولا عصيان، وإن عبد الله عَبَدَه بغير خشوع ولا إيمان، وإن جاهد على الطاعة نفسه، لم ينفعه عند الله علمه وحرصه، إذ كان مطيعا بزعمه من لم يكثر دلائله عليه، ولم يركن حقيقة الركون إليه، وكيف يركن إلى ما هو عنه متحير جاهل؟! وعن العلم بدلائله زائل؟! فليس العمل إلا بمعرفة الله سبحانه، وجل عن كل شان شأنه، فالحمد لله الذي جعل الدلالات عليه للمستدلين، بما صنع من خلقه المصورين.
وبعد فإني لما نظرت الجهل قد شمل كثيرا من الأثام، وقَلَّتْ معرفتهم لذي الجلال والإكرام، حداني ذلك على أن أضع كتابا للمتعلمين، ومن أراد معرفة الله من العالمين، وأراد التخلص من العذاب المهين.(1/97)


فنسأل الله التوفيق في ذلك بمنه، ونعوذ بالله من خذلانه، ونسأله التسديد بعونه، فإنه لا يُوفق إلا من هداه، ولا يصيب الرشد إلا من خافه واتقاه، ألا ورحم الله عبدا حذر على نفسه من الدنيا، فإن محنتها أصل كل فتنة، والركون إليها أول كل محنة، تصد من أحبها عن ذكر الرحمن، وتشغل من نالها عن الخشوع والإيمان، وتدعو إلى طاعة الشيطان، فكل ما قضى من حوائجها حاجة طاشت به إلى أخرى، وأعقبته عند الله فقرا، فهو عن الموت غافل مغرور، وبلهوها جذل مسرور، وعن الله ذاهل مغمور، فهي تقوده إلى النار والعذاب، وتبعده عن رب الأرباب، فهو من الموت على ميعاد، وهي إلى تصرم ونفاد.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا في قليل حياتنا، وأن يُحضرنا عفوه عند وفاتنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مَن عرفه حق معرفته، وأيقن به، وتخضَّع لعبوديته، ورجاء عفوه عما سلف من خطيئته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من بريته، شهادة من صدق بنبوته، وتقرب إلى الله بمحبته، واشتاق إلى لقائه ورؤيته، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، شهادة أرجو بها عفوه يوم النشور، وأشهد أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان خير البرية بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد بإمامة ولديه الحسن والحسين ابني رسول الله الفاضلين، وأشهد أن الإمامة من بعدهما فيمن طاب من ذريتهما، وسار سيرتهما واحتذا بحذوهما، واقتدى في دينه بهما، اللهم يا مولاي فاكتبني بذلك مع الشاهدين، واشهد عليَّ بالبراءة من الجاحدين، ووفقني لسبيل الراشدين، واسلك في طريق المهتدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على مولاي وسيدي خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين، وعلى موالي وسادتي أهل بيته الطاهرين، الأخيار الأبرار الصادقين.(1/98)


قال الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: ثم نقول من بعد توحيد خالقنا، والقول بالحق في الله سيدنا: إن سأل سائل مسترشد، أو قال قائل متعنت ملحد، كيف السبيل إلى معرفة الله جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، وبما يُعرف، وما معرفته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما السبيل إلى معرفة الله القدير، فالفعل المميز للأمور.
وأما قولك: بما يُعرف؟
فليس يعرف إلا بما أظهر من صنعه وتدبيره، ومعجز فطرته وتقديره.
وأما قولك: وما معرفته؟
فمعرفته اليقين بإلاهيته، والإقرار والتصديق بربوبيته.
فإن سأل سائل عن معرفة الله سبحانه وظهر دليله وإيقانه، فقال: أمعرفة الله اضطرار أم اختيار؟
فالجواب له في ذلك: أن معرفته اختيار، ولو كانت معرفته ضرورة كمعرفة الأرض والسماء، وغيرهما من الأشياء، لما كان بين معرفة الجاهل والعالم فرقٌ، ولكان الخلق كلهم بالله عارفين، ولما كانوا أبدا جاهلين، ولكانوا جميعا به موقنين، وعلى معرفته مجمعين، وهذا محال عند أهل العقول.
فأما من كان من الجهال، وأهل الحيرة والضلال، فلن يزال ذلك في الشك مترددا حايرا، وعن اليقين بالله نائيا جائرا، إذا رضي بتعطيل ما ركب الله من عقله، واستغنى عن المعرفة بجهله، وإنه وإن كان بالله جاهلا، وعن اليقين به غافلا، فليس بمعذور في ترك طلب الدليل، والنظر والبحث عن الخطب الجليل، فإن عطل ذلك لم يكن معذورا، وإن كان عن الله جائرا مغمورا، ألإن الله عز وجل قد جعل له عقلا وفكرا، وتمييزا وذكرا، واضطره إلى درك صنع عجيب، لا يخلو في الفعل من أحد أوجه، مَن عطلها لم يضطر إلى حقيقتها إذ جهلها، وسنذكر إن شاء الله ما يصح لذوي الألباب، ويستدل به على الله رب الأرباب، وذلك أنا نظرنا إلى أنفسنا، إذ هي أقرب الأشياء إلينا، فرأينا كل جارحة من جوارحنا قد جعلت لسبب ومعنى، ولا يجهل الشيء لصلاح الشيء إلا عالم حكيم بما صنع وبنى.(1/99)


من ذلك ما شاهدنا، في جميع الحيوانات منا ومن غيرنا، من عجيب تصويرها، وإحكام صنعها وتدبيرها، وإصلاح منافعها وتعميرها، وما جعل الله لها من تفصيل أجسامها وتوصيلها، وشد أسرها وتعديلها، وإثبات مصالحها التي لو لا هي لهلكت ودمرت، ولما تناسلت ولا كثرت.
ومن ذلك ما جعل فيها من العقول لاختلاف المنافع ونفي المضار، والمفاصل التي جعلها للحركة والمجيء والإياب والإدبار، وما جعل من الحواس الخمس، من العيان والسمع والشم والذوق واللمس، وجعل كل حاسة لشيء بعينه، لما أراد من ثبات الدليل وتبيينه، إذ لا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يدبر ويصف إلا عليم.
ومن ذلك ما جعل من الذكور والإناث، وأبان في ذلك من الجعل والإحداث، فجعل كل زوج من ذلك يصلح للآخر بتقديره، لما أراد سبحانه من خلق النسل وتكثيره، ثم جعل للنسل معايش في صدور الإناث بلطفه، لما علم من فاقة الطفل وضعفه، وهذا ومثله فلا يتم إلا بعلم من عليم، وتدبير من صانع حكيم، ثم جعل سبحانه للأطفال بعد كبرهم معايش غير معايشهم في حال صغرهم، ليتم بذلك ما أراد من تعميرهم، فبسط لهم الكفاية من رزقه، بعد إكمال تصويره وخلقه، وجعل في الأجساد مداخلا للأغذية لعلمه بفاقتهم إليها، وجعل لهم مخارج لها إذ فطرهم عليها، فلما نظرنا إلى عجيب ما صنع وافتطر، وبيَّن من حكمته وأظهر، صح عندنا بأيقن اليقين أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، لأن ا لحكمة لا تهيأ إلا لعليم، لأن الجهل ليس معه نعمة، ولا يتم للطبائع التي ادعا الملحدون علم ولا حكمة، لأن الموت لا يكون حكيما ولا سمعيا (1)، ولا يكون المصلح المنعم إلا رحيما.
فمن أنكر ذلك!! قيل له ولا قوة إلا بالله: ما نقول هل فيما ذكرنا حكمة تدل على الواحد الجليل؟
__________
(1) في المخطوط: حكيما ولا سميعا. ولعل الصواب كما أثبت.(1/100)

20 / 58
ع
En
A+
A-