وبعد التفكك السياسي فقد كاد مذهب الهادي أن يتقوض، لولا جهود أبي الحسين الطبري وأمثاله، والتي لولاها ولخصوصية المذهب العقلانية لكان أبناء الناصر -بتقاتلهم- قد تكفلوا بإزهاقه. وقد آوى الطبري وأمثاله إلى المساجد يحافظون على مذهب الهادي ويحاولون نشره، تاركين الساحة العملية لمعارك مدوية تعصف باليمنيين عصفا، وتلوي بجهود الهادي السياسية وابنيه المرتضى والناصر. وليس أدل على ذلك من أننا لم نجد- في هذه الفترة وباستثناء الإمام المنصور العياني إماما مؤلفا(1)، يرسخ فكر الهادي وعقلانية المذهب ويمده بالنمو عن طريق الاجتهادات المتنوعة، ولم نعد نسمع حديث الأقلام ولا نستروح فوح الأوراق، وإنما نسمع صهيل الخيول وقعقعة السيوف، وهرير المتقاتلين. ولم نعد نرى شكلا لدولة حاول الهادي وابناه إقامتها على أسس فكرية، وإنما صراعا بين القوى الطامعة من أجل مآرب مادية، وأدى طول التناحر (210 عاما) إلى إضعاف الدولة التي أقامها الهادي. لم يعد هناك جهد-كما نقرأه في أخبار تلك الفترة الهائجة والمهتاجة- لبناء دولة، ولكن لبناء مراكز قوى تعيث في الأرض فسادا. هذه الحالة أثرت سلبا على أولئك الذين انضووا في مساجدهم يحاولون نشر النور وسط ظلمات بعضها فوق بعض.
__________
(1) لم نذكر المهدي الحسين بن القاسم بن مؤلفي الهادوية حتى يتم الفصل في موضوع مهديته لأنه أن إدعاها فقد خرج من مذهب الهادي.(1/6)
وفي أواخر عام 388/نوفمبر-دبسمبر998 ظهر الإمام العلامة المجتهد المؤلف المنصور بالله القاسم بن علي العياني فذكّر بالإمام العالم الرسي، وحاول أن يعيد للفكر دوره، وللدولة كيانها، لكن أيامه كانت قصيرة وحاربه الأقارب والأباعد فلم يتمكن من كبح جماح الهيجان الثائر، ولم يستطع بقلمه ومؤلفاته أن يغلب ما تخطه السيوف والرماح والأطماع، فمضى إلى ربه في 9 رمضان393/11 يوليو1003(1) مخلفا وراءه صراعا محموماً، لقد ساد مناخ مظلم حقا شكل فيها القاسم بن علي ومضة عابرة.
في مثل هذه الأجواء المعربدة فوق الساحة الشمالية، يزداد الظمأ -وسط وضع نفسي متأزم- إلى شيء غيبي يظنونه منقذا، ويعتبرونه مخرجا، ولم يكن هذا العلاج إلا المهدية، ولم يكن المنقذ سوى المهدي الحسين؛ وبقتله في 4 صفر 404/15 أعسطس 1013(2) تعمدت مهديته في جلال موته. وللموت تأثير في كسب عواطف الأحياء.
__________
(1) السيرة كمصدر تاريخي بقلم ويلفريد مادلونغ ص 8 (سيرة الأميرينص 8).
(2) السيرة كمصدر تاريخي بقلم ويلفريد مادلونغ ص 8 (سيرة الأميرينص 8).(1/7)
وقد احتدم الخلاف بعد موته بين المؤرخين حول ماإذا كان قد ادعا المهدية فعلا؟ أم أن أنصاره هم الذين نصبوه بعد موته مهديا؟ فيذهب الإمام أحمد بن سليمان إلى تأكيد ادعائه المهدية(1) وكذلك يذهب حفيده الأمير ذو الشرفين محمد بن جعفر في وصيته(2)، وذهب صاحب "بهجة الزمن" إلى أن الحسين أعلن بالفعل أنه المهدي الذي بشر به النبي (ص) في "قاعة" في شهر صفر سنة 401/(3) ستمبر-أكتوبر1010 وأيد هذا الاتجاه آخرون، بينما يظن البعض أنه خولط في عقله فادعا المهدية(4)، كما دافع عنه آخرون على رأسهم العلامة حميدان(5). وعلى كل حال فالخلاف
__________
(1) للإمام أحمد بن سليمان قولان الأول في حقائق المعرفة وهو ينفي عنه مايقال عنه مع ذكره لنص رسالته إلى السيد الهادوي بصعدة التي يتهمه فيها بنكران مهديته. والقول الثاني في "الحكمة الدرية" وهو يثبت ادعاءه المهدية. وهذا يؤكد أن كتاب حقائق المعرفة أو الحكمة الدرية قد أضيف إليه ما ليس فيه. والأقرب أن الإضافة كانت في حقائق المعرفة لأن المتقدمين من المؤرخين يذكرون الإثبات.(انظر النصين في سيرة الأميرين ص 345-353).
(2) يشهد الأمير ذو الشرفين في وصيته: (أن الحسين بن القاسم المهدي لدين الله الذي بشر به الرسول عن الله وأنه صادق في كل ما ادعى) (ص 168وانظر 169) وفي وصيته الثانية يقول أنه (يشهد أن الحسين بن القاسم بن علي: المهدي لدين الله الذي بُشر به على لسان رسوله الذي يملأها عدلا كما ملئت جورا، وأنه الغائب المنتظر، الذي أتى فيه عن الرسول الخبر، وأنه صادق فيما ادعى من جميع الأشياء إذ لاينطق عن الهوى)(سيرة الأميرين 153).
(3) تاريح اليمن المسمى بهجة الزمن ص 44. تأليف تاج الدين بن عبد الباقي اليماني. تحقيق مصطفى حجازي.دار العودة بدون تاريخ ولا رقم الطبعة.
(4) قال ابن الوزير: (أما "الحسين" فقد صح اختلاله في عقله واختلاطه) (تاريخ بني الوزير ش:186).
(5) انظر كتاب الإشكال في الملحق.(1/8)
حوله قائم حتى اليوم، وربما يظل إلى ما بعد اليوم فللناس أهواء وميول ليس من السهل التغلب عليها.
إن ظهور المهدية في المحيط الهادوي إذن، كان نتيجة- ضمن أسباب ثانوية- إعياء سيطر على الهادوية أنذاك، ولكنها لما بدأت تستعيد نشاطها بدأ الإنهاك يضرب الحسينية ومهديتها ويقزمهما، الأمر الذي يؤكد أن ظهورهما وضعفهما قد ارتبط بضعف وقوة الهادوية نفسها، فبقدر ما كان الفكر الهادوي يقوى ويشتد، كانت المهدية تخفت وتتضاءل، حتى انتهت من ذات نفسها تحت إشعاع فكري قوي. وفي هذا دليل على أنها كانت دخيلة على الفكر الهادوي. لقد وجدت فرصة في تربة لم تتماسك بعد فانغرزت فيها، فلما نظفت هذه التربة جفت جذورالزرع الطارئ، والغراس الغريب. باختصار لقد ازدهرت الحسينية بسبب إعياء الفكر الهادوي وخمدت نارها بفضل يقظة هذا الفكر من إعيائه.
* * *
من الطبيعي أن يتعرف الناس على هذه الشخصية المثيرة من داخله، بعد أن عرفوه من خارجه. عرفوا حروبه ومقاتلته وعنفه وانتصاراته ونهضاته وذكاءه الحاد، وسمعوا عن تأليفاته الغزيرة، ونشاطه السياسي المحموم، لكنهم لم يعرفوه من داخله، أي من أفكاره هو. ولهذا فقد أحسن صديقنا العلامة المحقق "عبد الكريم جدبان"- وكم له من محاسن في مجال التحقيق والتأليف- إلى المهدي وإلى الفكر عامة وإلى التاريخ بصفة خاصة بتحقيقه ما عثر عليه من كتبه ورسائله.(1/9)
فأما إحسانه إليه وإلى الفكر الهادوي، ومن ثم إلى التاريخ فلأنه قدم للناس جميعا ما وجده من كتبه وأفكاره، وسيقرأ الناس أفكار هذا الإمام المثير للجدل من مصادرها، وليس مما كتب عنه وعنها، ومعرفة عقلية الرجل تلقي أضواء على سلوكه. مع العلم بأن ما نشر حتى الآن ليست كل كتبه ومن ثمة ليس كل أفكاره، وإذا صحت الأبحاث الجديدة التي قام بها العلامة المحقق نفسه، والأستاذان "رضوان السيد" و "عبد الغني" من أن بعض كتبه قد نظفت من أشياء كثيرة أو لطفت فإنه يبقى لما جمعه المحقق فضل كبير. وعلى كل حال فكتاباه - الأكثر أهمية: الرد على من أنكر الوحي بعد خاتم النبيين والذي له مساس بمهديته، وكتابه المعجز- قد تعرضا بالذات لشبهة التنظيف، ولا شك أن ذلك لو كان قد حصل فإن البت في موضوع ادعاء الحسين للمهدية يقلل من فرص النجاح في الوصول إلى رأي قاطع(1).
ولقد رأى المحقق أن يضم إلى مجموع كتب المهدي كتابا ليس من تأليفه، ولكنه من تأليف العلامة "حميدان بن يحيى" المعروف بهجومه على المعتزلة. وكتاب "رفع الإشكال" ألفه للدفاع عن المهدي والنضال دونه، وقد أراد المحقق بضم هذا الكتاب إلى المجموع أن يوجد نوعا من التوازن بين القائلين بأن المهدي قد ادعا المهدية، وبين القائلين بأن الحسينية هم الذين فعلوا ذلك. والمحقق العلامة ممن يغلب القول بأنه من (خلال موازنة الآراء والأقوال والأحكام التي صدرت معه وضده يرجّحُ القول أنه كان يذهب إلى القول بأنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن هنا فهو قد أضاف رفع الإشكال ليخلق توازنا في العرض. وهو بهذا النص يعرض "المع" و"الضد" في إطار واحد.
__________
(1) سيرة الأميرين ص39 وانظر مقدمة المحقق.(1/10)