قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن قولك هذا لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون عنيت به الزمان الذي انقطع ومضى، وتصرم وفني.
وإما أن تكون عنيت غيره، فإن كنت عنيت غيره، فليس كلامنا إلا فيه، وإن كنت عنيته، فكيف لا يتناهى عند من عقل من أهل النهى شيء قد وقع عليه الانقطاع والفناء، وما انقطع وفني فقد تناهى.
ودليل آخر
إما أن تكون عنيت بقولك: كل ما فني ومضى من الزمان الذي هو سكون الهواء.
وإما أن تكون عنيت ما بقي منه الآن، فإن كنت تريد ما مضى منه وغبر، فقد أجبت نفسك من حيث لم تشعر، وإن كنت عنيت ما بقي من الدهور، وما هو يمر على الخلق ويدور، من الساعات والأيام والليالي والشهور، فها هو اليوم يمضي ساعة حادثة ويحدث غيرها، فكلها حدثت ساعة، فثبتت ساعة وتناهت.
فهذا دليل على ما مضى من سكون الهواء، ولا يزال ذلك أبدا بإبقاء الله تبارك وتعالى، وسنزيد إن شاء الله بيانا، ونوضح لك من ذلك هدى وبرهانا، ونسأل الله أن يوفقنا.
فنقول إن شاء الله: ما تقول أيها السائل عن حدث الهواء؟ أهو في ذلك عندك ساكن أم لا؟
فإن قال: ليس بساكن كابر عقله، واستغني عن مناكرته بجهله، بأن الهواء لابث غير زائل، لا يمتنع من لبثه عاقل، ولا يكابر فيه عالم ولا جاهل.
وإن أقر بسكونه، قيل له: أخبرنا أكُلُّه ساكن أم لا؟
فإن قال: إلا بعضه كذب كذبا بينا، وإن قال: بل هو ساكن كله، فللكل نهاية وغاية، لا يخلو من السكون، والسكون يدل على تناهيه وتجديده، إذ لا يخلو منه.
ألا ترى أن الشيء إذا لم يخل من صفته، فذلك دليل على حدوده، كمثل اللون والحركة، والسكون والمسخة، وغيرهن من الأعراض، والكلية والأبعاض.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الساكن ساكنا إلى مالا نهاية له؟(1/81)


قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا محال باطل، لا يقبله من الناس عاقل، لأن ما صح حدثه فهو كله محدث، ثم نقضت قولك بقولك لا نهاية له، لأن الكل دليل على أنه لم يبق منه شيء حتى حدث بعد عدمه، فبطل ما ادعيت من قدمه.
ودليل آخر
أن العقل لا يقع إلا على الكل والبعض، والطول والعرض، ولا يخلو الهواء من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون ساكنا كله.
وإما أن يكون بعضه ساكنا، وبعضه متحركا.
وإما أن يكون لا ساكنا ولا متحركا.
فإن قلت: إنه لا ساكن ولا متحرك جحدته، وأبطلت ما بالقدم وصفته، بل إن كنت من المشبهة فقد عبدته.
وإن قلت: بعضه ساكن وبعضه متحرك، فقد حددته وناهيته، وقسمته وجزأته، وأجملته وبعضته، لأنه إن كان على ما وصفت فهو على ضربين، وجزؤين موصوفين متناهيين محدودين، وحالين مختلفين، متغايرين معروفين.
فإن قلت: إنه ساكن كله، فقد أقررت صاغرا إذ وصفته بالسكون فحددته، إذ لم يبق منه السكون شيئا حتى جرى عليه، ولم يذر منه قليلا ولا كثيرا حتى وصل إليه، فانظر أي القولين أولى بالحق.
- - -
باب الدلالة على حدث الأجسام
ودليل آخر
يقال لمن قال بقدم الأجسام: أخبرنا ما أعظم الأجسام وأجلها، فلا بد أن يقول الأرض والسماء، فيقال له: أهما في الهواء، أم لا؟
فإن (1) قال: لا، كذب، وإن أقر بذلك صدق، ووجد الأجسام لا تنفك من الهواء، وما لم ينفك من المحدَث، ولم يوجد إلا بوجوده، فهو مثله مكون بكونه.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الأرض منحدرة سفلا إلى ما لا يتناها، وكذلك السماء مصعدة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال باطل فاسد، وذلك أنهما مخلوقتان.
فإن قال: وما الدليل على ما ادعيت من حدثهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثهما أنهما لم ينفكا قط من الهواء الذي بينهما، وقد أوضحنا حدث الهواء فيما تقدم من كلامنا، وما لم ينفك من المحدَث ولم يكن قبله، فسبيله في الحدث سبيله.
__________
(1) سقط من (ب): فإن.(1/82)


فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الهواء حدث بعدهما، ولم يكن معهما ولا قبلهما، ولا هو في القدم مثلهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن الأرض لم تخل من التحت، ولم تخل من التباعد والتباين، ولم تخل السماء من الارتفاع، ولم تخل الأرض من الاتضاع، وفوق الأرض فهو الهواء، وكذلك هو تحت السماء، وهو المسافة بينهما، وهو سبب تباعدهما، وهو الفرق بينهما، وأيضا فإنك مقر بأزلية تباينهما، وهذا محال لما بينا من كونهما ووجودهما، بوجود هذا الفضاء.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكونا في حال أزليتهما غير مفترقين ثم افترقا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه حجة عليك لا لك، احتججت بها على نفسك، لأن حدث الافتراق دليل على المفرق، وافتراقهما بعد اجتماعهما، دليل على مفرقهما بعد جمعه، ونقلهما دليل على صنعه.
ودليل آخر
أنك قلت: افترقتا، والافتراق لا يكون إلا في مكان كما وصفنا، وكذلك الاجتماع ووجود المكان، دليل على حدثهما، إذ لم يخلوا من هذا المكان المحدث، الذي بينا حدثه فيما مضى من كلامنا، وإذا لم يسبقا المحدث، أعني الهواء، ولم يكونا قبله، فسبيلهما في الحدث سبيله.
ودليل آخر
أنك قلت: افترقنا، والافتراق لا يكون إلا بعد الاجتماع، وإذا كان للاجتماع آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول، ألا ترى أنهما إذا كانا لم يزالا مختلفتين ثم افترقتا، فقد بطل ما مضى من كثرة سكونهما واجتماعهما، ولا يخلو هذا الباطل الذي بطل، وهو سكونهما من أن يكون بطل كله، أو بطل بعضه.
فإن قلت: بطل بعضه، فهذا محال، لأنك أقررت بحركة افتراقهما، بعد سكون اجتماعهما، وإذا تحركتا فقد بطل كلما مضى من سكونهما، وإذا بطل جميع السكون والساعات الحادثة، فقد صح أن لهما عددا، وإذا صح بأن للساعات عددا محدثا، وصح بعد حدوثه انقطاع جميعه، والأرض والسماء عندك لم يسبقا سكونهما، هذا الذي ذكرنا، حدث ساعاته، وانقطاعها بعد حدوثها.
دليل آخر(1/83)


أن جميع الأجسام من الأرض والسماء، وغيرهما من الرياح والماء، وجميع ما خلق الله سبحانه وبرى، ودبر وذرأ، لا يوجد إلا في وقت وساعات، لأن الأجسام لا تنفك من السكون والحركات، وكل متحرك أو ساكن لا ينفك من أقل قليل الأوقات، وما لم ينفك من الوقت والزمان، فهو مثله في الحدث والبرهان، لأنا قد أوضحنا حدث الأزمان، فانظر كل علة من العلل، وعرض من الأعراض، فلن تجده إلا في جسم من الأجسام، وما لم يوجد إلا بوجود الجسم فلم يسبق الأجسام، وكيف يسبق ما لم يوجد إلا فيه؟! ولا يستقيم إلا به وعليه؟! وما لو لا هو لما وجد أبد الأبد، ولما رءاه من الخلق أحد، مثل اللون لا يوجد أبداً إلا في جسم، فإذا صح حدث الجسم المنفرد بذاته، فعرضه الذي لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا متعلقا به، أجدر أن يكون محدثا، وأحرى بأن يكون مصنوعا مدبرا.
ثم انظر إذا أردت أن تعرف حدث جميع الأشياء، فلن تجده إن شاء الله إلا على ما ذكرنا متحركا أو ساكنا، ثم انظر إلى الحركة والسكون، فلن تجدهما أبداً إلا في وقت ولو قل الوقت، ثم انظر إلى يومك وأمسك، وافرق بين ما تأمل من البقاء، وبين الماضي السالك، من عمرك الفائت الذي قد مضى، فإنك تجد كل يوم من أيامك السالفة الماضية، الذاهبة من عمرك الفانية، قد تضمنها الفناء، وكذلك تضمن غيرها، ثم انظر الفناء أوقع عليها كلها أم لا؟! فإنك إن نظرت وجدت كل ساعة من الساعات والأزمنة الماضية الخالية، لم ينقطع آخرها إلا بعد انقطاع أولها، ولم يحدث آخرها إلا بعد حدوث أولها، وكل أول من الزمان حدث وصح حدثه، فلم يحدث آخره حتى فني أوله، وما لم ينفك من الحدث والفناء، فقد تناها منه كل ما مضى، وبلغ غايته وانقضى، فلم يوجد الزمان إلا على هذين الحالين المتناهيين، الحدوث والفناء، وما صح حدثه ومبتداه، وصح فناؤه ومنتهاه، ولم توجد الأجسام جميعا إلا بوجوده، فسبيلهما في الحدث كسبيله.
ودليل آخر(1/84)


لما نظرنا إلى الزمان والهواء، فأمكن في المعقول أن ينفردا من الأجسام، علمنا إذ ذلك أنهما كانا قبل الأشياء، ثم نظرنا إلى الأشياء فإذا هي لا تنفك منهما، ولا يجوز في المعقول أن تكون قبلهما، فعلمنا أن الأشياء محتاجة إليهما، مبنية في الشاهد عليهما، فلما علمنا أن الأشياء لم تكن قبلهما، ولم توجد إلا بوجودهما، رجعنا إلى الطلب لحدوثهما، والاستدلال على صنع الله فيهما، فنظرنا إلى أجلِّهما وأوضحهما وهو الهواء، هل ينفك طرفة عين أو أقل منها من الزمان؟ فإذا هو لا ينفك منه أصلا، فرجعنا بطلب الدليل على حدث هذا الذي لا ينفك منه شيء من الأشياء، فوجدنا - والحمد لله - في ذلك ما كفانا، ووضح لنا فشفانا، وهو ما ذكرنا، ولو لا خشية التطويل والإكثار، لشرحنا من ذلك ما لا يدفعه عاقل أبداً بإنكار.
ثم علمنا أن الله خلقهما جميعا مع إذ لم ينفك من الزمان الهواء، ثم نظرنا إلى الزمان فإذا هو عرض من أجلِّ الأغراض، دلنا الله به على حدوث جميع الأجسام، وإبطال دعاوى الطغام، أهل التكمُّه في الإظلام، وأشباه عجم الأنعام، ولما نظرنا إلى هذا العرض الجليل، لم يكن بُدٌّ له من جسم، فإذا جسمه هذا المكان.(1/85)

17 / 58
ع
En
A+
A-