..إلى أن قال: وأخبرني غدير فيما أخبرني به من حُمق أصحابه هؤلاء وجهلهم وقلة التمييز منهم، أنه أقبل في طريق مع الشريف يحيى بن عيسى بن عياش وأصحاب له، فإذا هم بدفتر لطيف في الأرض، فالتقطه أحدُهم وناوله الشريف - أو كان الشريف هو الملتقط له - فنظر فيه العهدَ الذي يأخذه أهل الدعوة الباطنية لإمامهم صاحب القاهرة من مصر على مَن رغب في الدخول معهم، فعرّفهم به وأراهُم مما ألقاه إليه الحسين بن القاسم، وقرأ افتتاح الكلام الذي فيه عليهم فاستحسنوه وطربوا له ونشوا.
ثم قرأ عليهم العهد وأخذَهُ عليهم لصاحبه الذي وُضع من أجله باسمه وكنيته ولقبه، فلم ينتبهوا لشيء من ذلك ولا أنكروه، فصار لا يأتيه أحدٌ للدخول معه في حزبه وحلول محله ذلك إلا أخذ ذلك العهد عليه! وكان غديرٌ قد حفظ ذلك العهد الذي في الدفتر وخطبته المقدمة حفظاً تاما، فأردتُ امتحان ما يقول فأمرتُهُ بقراءة ذلك عليّ! وقد كانت عندي كراسةٌ فيها ذلك فقابلتُ بينهما فإذا هو عهدُ الأمير ابن المستعلي ولقب الأمير واسمه وكنيته! فغلب على ظني أنه قد كان يرى رأيَ القوم، وقدّم خواصّه مَن ألقى الدفتر على الطريق! لِمَا أرادَ من الحيلة في أخذه عليهم.
وقد كان فيمن اختلط بأهل الدعوة الحسينية والدولة الشهارية بشرٌ كثيرٌ من شيعة أهل الدعوة الصليحية. ووقت ابن عياش هذا قريبٌ من وقت دخول الذؤيب بن موسى بن الذؤيب الوادعي في مذهب أهل الدعوة الصليحية وقوله بالباطن، وأحسُب داءَهما كان واحداً.(1/71)
وكان في أهل الرأي بشهارة ضريرٌ يُعرفُ بالبصير، بلغني أنه مولى من أهل دَرب شاكر الذي يلي أرض بني صُريم. فأخبرني عنه غير واحدٍ من أهل شهارة وغيرهم من الزيدية والحسينية أنه استعمل فيهم حِيلاَ وتدليساً ومخاريق غَلَب بها على أكثرهم، حتى أن الأمير محمد بن جعفر بن القاسم أيام مُلكه بشهارة كان يُداريه، وأنه بلغ من انقيادهم له أنهم كانوا يأتونه بالنساء فيمسح على أجسادهن للتبرك. وأنه ربما يأتونه بالمرأة التي لا تحملُ فيمسح على ظهرها.وأن الأمير بلغه منه ما يَقبُحُ فَهَمَّ به فانفصل إليه أكثر أهل شهارة فتركه!
فأخبرني الشريف أحمد بن محمد بن أحمد العلوي أحد ثقات المرحبيين أنه قَدِمَ هذا البصير في نفرٍ من أصحابه للخريف إلى المدحك من بلاد وادعة، فنزل على شيخ البلد ورئيسهم وكان يتوالاه ويصدّقه ويُكرمُه ويرفع منزلته ويعظّمه. ثم إنه أخذه وأصحابه إلى عنبٍ من أعنابه فقسم لهم منه لكل إنسان شيئا، وقسم للحسين وعيسى بن مريم والخضر لكل واحدٍ جزءا. وكان يتولى تفقُّد ذلك العنب وحراسته بنفسه، فربما يصبح في الغدوات يدور فيه ويتفقده. فعمد البصير إلى شيء من المسك أو الزباد ونحوهما فجعله في مواضع من الجزء الذي قَسم للحسين، وعلى أول موضع منه يطلع عليه ويقف عنده أجوده. فأصبح هذا الشيخ يدور ذات يوم في العنب وينظر فيه حبلةً حبلةً، وأصبح في الأرض طلٌّ وندًى فاشتدت رأفةُ ذلك الطبيب، فلما مَرّ به شمّ تلك الرائحة وقد علت وقويت فصاح بأعلى صوته: أنا أشهدُ أنك يا حسين بنُ امْقاسم امْواحد امْقهار! فسمعه الناس فسألوه فأخبرهم بما شمّ في ذلك العنب الذي للحسين أو دعاهم حتى شمّوا، وازداد يقينه ويقين مَن كان على رأيه، وقويت بصائرهم في رأيهم!
وقوله: ياحسين بن ام قاسم امواحد امقهار يريد: الحسين بن القاسم الوَاحد القهار.(1/72)
قال مسلم اللحجي(1) أخبرني أسعد بن عبد الفاضل بن يحيى العُبيدي رحمه الله، قال: أتى إبراهيم بن جابر بيت غفران من جبل حَضور وكان بها رجالٌ من الأغنياء وأهل السَّعة يقولون بإمامة الحسين بن القاسم وحياته. فقصد المسجد وكان به معلِّمٌ لهم على مثل رأيهم مع زيادة حمقٍ فيه، وذلك في وقت الزوال، فسلّم عليه وقال له: أنت فلان الفلاني؟ قال: نعم! قال: وهذه بيت غفران الثلاث القروات؟ قال: نعم! قال: وبها من المشايخ كذا ومن الناس كذا؟ وبك أنت وبمنزلك كذا وكذا من العلامات؟ مما أحسبُه أن قد كان سأل عنه، لأنه فيما ذكر لي ابنُهُ محمد بن إبراهيم بن جابر قد كان ينزل عُصفران من ناحية البرويّة - وكان موضعا قد نزل به عمُّهُ أحمد الحجازي أحد شيوخ الزيدية المذكوين في هذا الكتاب - بعد خروجهم من سَناع وهو قريبٌ من جبل حَضور، بحيث يمكنُهُ أن يقع إليه فيه أخبار أهله. وكان ببيت شعيب من شرقي جبل حَضور قومٌ من هذه القبيلة التي ينتسب إليها من عنز، لا أرى إلا أنه كان ينزل بهم ويأتي كثيراً من نواحي حَضور.
قال أسعد: فلما سمع منه ذلك المعلمُ ذلك القولَ فزع له وخامره أمرٌ راعه! ثم إنه قال للمعلم: فإني رسول المهدي لدين الله الحسين بن القاسم وصاحبيه - أو أحسبه قال: وعيسى بن مريم والخضر - وهم بشعب كذا من حَضور شعب موحش خالٍ من الناس، وقد أمروني إليك بالسلام واختصّك الإمام بخاصّة سره وأهم حوائجه، وهو يأمرك بأن تلقى فلاناً وفلاناً من أهل هذه القرى الثلاث - فعدّ عشرة من كبارهم ومَن يجوزُ قولُه عليهم - قال: قال: فتأمرهم بأن يبعثوا إليه بمائة دينار كل رجلٍ منهم بعشرة دنانير، ويكون نصيبك أنت أن تصنع له ولصاحبيه عشاء، وأنا آتيهم به، ولا تخرجه إليّ حتى تغيب الشمس. فأحسب - والله أعلم - أنه قال له: فهل أدعوهم إليك هاهنا؟
__________
(1) تاريخ مسلم 4/335 – 336.(1/73)
قال: إن فعلتَ فإنهم لا يرونني! فجعل المعلِّم يفكر، فلما اشتغل انسلّ إبراهيم حتى توارى في موضع، وأتى القوم فلم يروه فعظُم عليهم الأمر وبادروا حتى جمعوا الدنانير. فلما تفرّقوا برز للمعلِّم فقبضها وواعده موضعاً منتحياً عن البلد يأتيه فيه بالعشاء وقت غروب الشمس ففعل، وانصرف إبراهيم بالدنانير وبذلك الطعام إلى حيث يريد.!!
[جدلٌ بين زيدي وحسيني]
قال رجل (1) من الحسينية لرجل زيدي فيما يتعلق بالقيامة والبعث والنشور قولا. فقال: وهل يصحُّ أن تكونَ قيامةٌ وبعثٌ ونشورٌ وثوابٌ وعقاب؟
قال: نعم!
قال: هل من دليل على ذلك؟
قال: قول الله تعالى: ? ??????? ?????? ?????????? ??????????????? ????????????????? ??????? ??????? ?????????????? ? [الأنعام:12]، وقال تعالى: ? ?????? ?????????? ?????????? ???? ???? ?????????????? ????? ??????? ????????? ??????????????? ????? ???????????????... ? [التغابن:7].
قال: وهذا كلامُ مَن هو؟
قال: كلام الله.
قال: ما الدليل على ذلك؟ وعلى أنه من الله؟
قال: لأنه معجزٌ لا يقدر البشرُ على المجيء بمثله!
قال: يا سبحان الله! من يقول هذا؟!
قال: لا خلاف فيه ولا ينفيه أحد!
قال: المدفوع والذي لا إجماعَ عليه! قال: لِمَ؟
قال: لأنكم رويتم زعمتم عن الحسين بن القاسم أنه قد جاء بما هو فوقه درجةً وأعلى منزلة. وقد كان يبطل كونه معجزة أن يؤتى بمثله، فكيف وقد ادّعيتم القدرة على المجيء بما هو أَبهَرُ منه أو أَبْيَنَ؟!! أي ذلك قلتم فهو إثبات فضل ما جاء به الحسين عليه! فلم يجد الحسيني حيلةَ إلا الجحد والإنكار لذلك القول، وأنه ما قاله الحسين ولا هو من كلامه.
قال: فأما إن كان الأمر على هذا ولم يقل الحسين هذا، فإنه صادقٌ وأنت سالمٌ من الهلكة التي عليها غيرك من القائلين بذلك.
__________
(1) تاريخ مسلم 4/345 – 346.(1/74)
وقال له الحسيني: أتقول إن الحسين بن القاسم حيٌّ سويٌّ إلى الآن، وإنه المهدي الذي ينتظره الناس؟
قال: لم أَرَهُ بعد، ولا خلطة لي به ولا معرفة!
قال: إنه غائبٌ!
قال: كيف يعرفُ الشاهدُ الغائبَ من الناس بغير عيانٍ ولا خبرة؟
قال: إنه سيظهر ويملأُ الأرض عدلا كما ملئت جورا!
قال: إذا كان هذا عرفتُهُ حينئذٍ وأخبرتُك بما أعتقدُ فيه، فأما الآن فلا كلامَ لي فيه.
قال: فهل تقولون إنه أفضلُ من رسول الله حينئذ أم لا؟
قال: قد قلتُ حتى أراهُ، فأما الآن فلا قول لي فإن استعجلتَ عليّ فصِفْهُ لي!
قال: إنه رجلٌ من ولد رسول الله صلى الله عليه، فذكر نسبه وأباه وعلمه وديانته وفضائله على ما يعتقد فيه.
قال: فعلى هذا هو شريفٌ من آل رسول الله صلى الله عليه؟
قال: نعم!
قال: ولآل رسول الله من الشَّرَف به صلى الله عليه ما ليس لسائر أشراف العرب من قريش وغيرها؟
قال: نعم!
قال: فكيف يلزمُني أن أُفضل رجلاً على مَن لم يكن شريفاً إلا به ومن أجله؟! فانقطع.
- - -
المؤلف
هو الإمام المهدي الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن الإمام القاسم الرسي الحسني اليمني المعروف كوالده بالعياني. أحد الأئمة العلماء الكبار، مجتهد، فقيه، عالم، نابغة.
ولد سنة 376/967 لعله في خثعم بالحجاز. ونشأ في حجر والده وأخذ عليه وعلى علماء عصره حتى فاق الأقران. وألف مابين سبعين إلى ثمانين كتابا كما شهد له الكثيرون من العلماء الفطاحل، لكن عقيدته كانت موضع ريبة وحذر عند كثير من علماء اليمن. كما تقدم.(1/75)