وكان القاسم أعلاهما عند الناس درجةً في ذلك. ولولا ما كان ينفّر عنه العامّة من أشياء كانت منه، نحو اعتقاده حياة الحسين بن القاسم بعد اعتقاده لقتله، وزعارة خُلُقٍ... إلى أن قال: وأما اعتقادُهُ حياة الحسين بعد الاعتقاد بموته فهو ما أخبرني به بعضُ أصحابه المخلصين بعد الاعتقاد في محبته على وجه القول بذلك والحُجّة على صحّته، وهو يوسف بن الذؤيب المعروف بالمسعود).
[محمد بن إبراهيم الصَبَري حسينيٌّ متحمِّس]
قال مسلم اللحجي: (1) أخبرني سعد بن أبي السعود بن أبي ثور الأبهري - وكان من أبناء شيوخ الزيدية وأهل التربية في الدين، وهو يومئذ شابٌ - وقد بقي إلى وقت تصنيف هذا الكتاب... قال: كنتُ في أيام الخريف برَيمة من أرض الأبناء عند صهرٍ لي كنتُ أنا أعرفه من وجوه أهل الدين، يقال له: سليمان بن سودة. فصادف ذلك أوان خروج الزوار والحُجاج إلى مكة والمدينة، قال: فخرجت ذات يومٍ عند طلوع الشمس فقعدتُ خارج القرية للدفء بها والحاجُّ يمرون بحيث أرى، فعدل رجلٌ منهم إلى ماء رَيمة فتوضأ ثم صلى صلاة أحسبها الضحى عندهم وانصرف. فخطر ببالي أن أعرفَ به ما عند ابن الصبري في هذه الخرافات فكتبت إليه - وكان في بعض تلك النواحي - كتابا أخبره فيه أني رأيت أمرا عجيبا، وذلك أني كنت في مكان كذا فلم أشعر حتى صرت أرى شخصا بعد أن لم أكن أراه! وإذا هو في ثياب بيض قائما يصلي فبينا أنا أراه إذ صرتُ لا أراه، فأُحبُّ من تفضُّله - أطال الله بقاه - أن تخبرني ما يقال في ذلك؟!
__________
(1) تاريخ مسلم 4/ 256 – 258. في ترجمة محمد بن إبراهيم بن رفاد (514 هـ).(1/66)
قال: فأتى جوابه يقول لي: الحمد الله الذي أسعده، ووفقه هداه وسدده، ليعلم أن ذلك مولانا المهدي لدين الله الحسين بن القاسم صلوات الله عليه! في كلامٍ نحو هذا! فليتمسك بحبل الدين، ويعتصم بعِصَم المهتدين، ويفعل ويصنع - في كلام ذكره -. قال أسعد: فلما رجعت إلى أهلي كنتُ لا أزالُ أعجبُ من كتابه ذلك، ومن وجدته يعجب منه وأوقفُهُ عليه. فبلغه ذلك فكتب يُعاتبني كتاباً فيه أبيات شعر، أولها:
أبا حسّانَ لِمْ فُتِشَ الكتابُ ... وخولفت المروَّةُ والصوابُ
قال:ولقيته بعد ذلك فقال: يا أبا حسان! أخبرني بما رأيت يوم رأيتَ الإمامَ شفاها الآن! قال: فخشيتُ أن أُغالطه بشيء فأُعينه على الإرجاف بذلك بين العوام، فقلت له: ويحك! إنما رأيت رجلاً يصلي على الروث فهل الحسين بن القاسم ممن يصلي على الروث؟! فارتاع لذلك وسكت.
الحسين السراج وحمقى الحسينية
قال مسلم اللحجي(1) أخبرني محمد بن إبراهيم بن حُميد بشظب، وأحبُّها مما سمعت من محمد بن إبراهيم بن رفّاد أيضا، قال: كان الحسين السراج الصنعاني أحد متكلمي الزيدية وذوي المعقول منهم. وهو الذي ذكره ابن حُميد في أُرجوزته التي أجابه عنها أبو السعود بن زيد رحمة الله عليه. فاضطُرّ للوصول إلى شهارة وبها يومئذ الأمير محمد بن جعفر بن القاسم بن علي الرسي وأهل ولايته من الشيعة الحسينية فسألوه عمل سروج كانت لهم أو نحو ذلك ففعل، ولبث عندهم أياما وربما يتعرض له بعضهم فيعظه(2) ويدعوه إلى القول بإمامة الحسين وحياته ونحو ذلك، فربما يُداريهم ويدافعهم عن التصريح بما عنده، إذ كان لا يرى فيهم معملاً لما يريد من تبيين الحق الذي يعتقده، ولا يقدر لهم على إظهار منافرة وخلاف ييأسون له منه حتى يدعوه.
__________
(1) تاريخ مسلم 4/258 – 260.
(2) في المخطوط: فيعطيه. ولعل الصواب ما أثبت.(1/67)
فاجتمعت عليهم إجارةٌ صالحةٌ وهَمَّ بالانصراف إلى مسكنه وأهله، فالتمس ذلك منهم فكأنه رأى بعض ما لا يريد من إقبالهم عليه واهتمامهم بحقّه. وخرج في بعض أوقات الصلاة إلى حَيد شعفٍ يقال له: الحُوار بشهارة لقضاء الحاجة، فرأى غراباً على طرف الجبل أمامه حين طار، ثم غَفل عنه فأسرع التواري عن بصره، فخطر بباله أن يُظهر لهم ما يتقرب به من قلوبهم، وتحسُنُ به له عشرتهم، وليتيقن ما يسمع به من تصديقهم بالكذب والخرافات. فلما رجع إلى المصلى أقبل على مَن هناك وقال: إني رأيت شيئا من صُنع الله عجيبا يرُوعُ مثلُه أهل العقول والتفكر - في كلام نحو هذا - ولقد وقع في نفسي منه شيءٌ، فارتاعوا لتهويله (1) وطالبوه بالكشف عما رأى، فتباطأ عليهم شيئا كالمستحضر لأذهانهم، أو نحو ذلك.
فلما قويت مُطالبتهم له بالخبر قال: خرجتُ إلى جانب من صَرف هذا الجبل فظهر لي شخصٌ في الهواء يسير وأنا أراه ثم غاب عني! وهذا شيءٌ عجيبٌ جداً! فتفرَّقَ القومُ بذلك وأشاعوه في الجبل بين أهله، وقالوا:تاب السرّاج! وأقرّ بالحسين ورءاه! في نحو من هذا القول. وبالغوا في الكلام بذلك حتى انتهى إلى الأمير- وكان بخلاف القوم- فتهاون بذلك وأعرض عنه أو نحو هذا.
__________
(1) في المخطوط: لتهوله. ولعل الصواب ما أثبت.(1/68)
وبادر القوم إلى السراج فجمعوا له ما كان له عند أهل الجبل من إجارة فقبضها. وتزايد الإرجافُ بتوبة السراج وكثُر، حتى أن الأمير أحبّ أن يطّلع على ما عنده في ذلك، وما سببُ ما يُقال إذ (1) كان في شكٍّ في وقوع ذلك منه كذلك. وعزم السرّاج على السفر فدخل عليه مودِّعا أو مستأذنا أو نحو ذلك، فلما صلح المجلس للكلام فَعَمَد في الخبر عن توبته، وما يُرجَفُ به عنه في الجبل يسأله عن ذلك؟ فقال: نعم يا مولاي! رايت شيئا! فأخذ عليه أن يَصدُقَهُ! قال: رأيت غراباً يطير أمامي في الهواء ساعةً ثم غفلتُ عنه والتفت فلم أره فذلك ما رأيت! فأحسبه ضحك وقال: قد عجبتُ أن يكون يجوز عليك ما يجوزُ على هؤلاء! فلما دخلوا وبّخهم وأوضع في العيب لهم، وأخبرهم بما قال السرّاج فتجدّدت عداوتهم له، وقد استقلّ مسافرا فلم يُرَع لما عندهم.
[من حماقات الحسينية]
قال مسلم اللحجي(2) أخبرني علي بن يحيى بن مسلم اللُّداني بوقَش - وكان من أهل الدين - قال: لما تُوُفّني الشيخ علي بن أبي رزين رحمه الله بوقش كان من ورثته ابنته امرأةُ محمد بن إبراهيم الصبري فأقبل أحمد بن محمد بن إبراهيم الصبري إلى وقَش - وهي أمه - مطالبا بنصيبها في تركة أبيها. قال: فدخلت عليه وعلى رفقته وكان معه له صهرٌ تحته أخته ابنة محمد بن إبراهيم يقال له... (3) وكان من كبار الحسينية من أهل حَضور. وإذا بين أيديهم ماعزٌ لهم وهو يأمُرُ بإكرامها وصيانتها ويقول: أرفقوا بالأولياء! فقال الشيخ الحسن بن أحمد الجنبي رحمه الله: والحمير أولياء؟!
قال: نعم!
قال: من أهل الجنة؟!
قال: من أهل الجنة!
قال: فأنت؟
قال: الله أعلم!
قال: فقد تيقّنْتَ أن الحمير تدخُل الجنة وأنت شاكٌ في نفسك؟
قال: نعم!
__________
(1) في المخطوط: إن. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) تاريخ مسلم 4/352 – 353.
(3) بياض في المخطوط. والغالب أنه هو الذي يرد اسمه في النص فيما بعد: علي بن يحيى.(1/69)
فقلتُ أنا لعلي بن يحيى: إن عند الحسين بن القاسم مما هو مسطورٌ في كتبه أن البهائم تُبعث يوم القيامة وتدخل الجنة وتتنعّم، وأن الله تعالى لا يفعلُ ذلك بها إلا وقد جعل لها عقولاً تعرف بها، وإذا جعل لها عقولاً لم يَجُز أن يجعلها في الصُّور التي تُستقبحُ وتسوء! فيجعلها في صورٍ تُستحسن. وهذا فهو رأي بعض أهل التناسخ.
سأل الشهاب الجزري أحد كبار قادة الأيوبيين في اليمن الإمام عبد الله بن حمزة فقال: ما الحجة في تقديم علي عليه السلام على سائر الصحابة؟ وفي إطلاق السب عليهم؟ وعن فرقة من الشيعة يعتمدون على التيمم مع وجود الماء وهم الحسينية؟ (1)
فأجابه الإمام إلا على السؤال عن الحسينية فإن مؤلف سيرته لم يثبت له جوابا عليه!!!
- - -
انخراط الإسماعيلية في صفوف الحسينية
قال مسلم اللحجي (2): وكان قد وقع إلى بلادنا مولىً حائكٌ أحسبُه من موالي ظُليمة أو مَن يجاورُها من القبائل يقال له: غدير، ضخم أسود اللون لا علم عنده ولا دين. وكان فيما أخبرني به عن نفسه وغيره عنه، قد عظُمت منزلته عند هذا الشريف يحيى بن عيسى بن عياش وشيعته، وكان يُرجف له ويأتي لما يُوافقُه وينصُرُ رأيَه ذلك، فوقع منه موقعاً رفع به منزلته حتى صار ممن يُتوسَّلُ به إليه، ويشفع عنده ويقدم ويؤخر. ثم صار إلى أسواق المغرب فشرب الخمر وقطع الصلاة، واستعمل الغناءَ من شعر العوام في بلادنا وما يواليها. وانتهى إلى أخسّ طبقةٍ في الفسق والخلاعة.
__________
(1) السيرة المنصورية1/ 45.
(2) تاريخ مسلم اللحجي 4/262 – 266.(1/70)