وكما واجهت هذه المعضلة صراعا أدبيا فقد واجه فقه الإمام القاسم العياني منذ مجيئه نفورا منه من بعض علماء الهادوية. ويعيد يحيى بن الحسين (1099/87-1688) النزاع بين الهادوية والأشراف العيانيين إلى أيام القاسم بن علي العياني، أي قبل ظهور فكرة مهدية الحسين بن القاسم؛ فيقول في "طبقات الزيدية"(1): (القاضي عبد الملك بن غطريف الصائدي. ممن عاصر الإمام القاسم بن علي العياني. وهو الذي كاشف الإمام بالنكر، وتخلّف عن إمامته هو ومَن تبعه، وذلك بسبب مخالفة القاسم في مسائل الفروع للهادي. لأن الزيدية كانوا يعتقدون في ذلك الوقت أن المُصيب في الاجتهاديات واحدٌ والحقّ معه إلى زمن المتوكل على الله أحمد بن سليمان).
__________
(1) طبقات الزيدية 1/63، وتاريخ بني الوزير ص214. وفي تاريخ مسلَّم 4/284: (والذي كان عليه مشايخ في عصره (عصر أبي السعود بن المنصور بن أبي ثور، النصف الأول من القرن الخامس الهجري)، تقليد الهادي إلى الحق عليه السلام في الفقهيات لا يعرفون غير مذهبه، ويستنكرون التصويب لغيره)). والطريف ما يذكره ابن الوزير من أن الحسين بن القاسم نفسه ((كان إذا مرّ بقبر أبيه ركضه برجله وقال: هو خالف مذهب الهادي!)). تاريخ بني الوزير ص212.(1/56)
وقد يكون فيما ذكره يحيى بن الحسين بعض الحق. لكن الواقع أن الزيدية مذهباً ودولة كانت قد تضاءلت وانكمشت منذ وفاة الناصر أحمد عام (322هـ) ولم يخرج من أعقاب الناصر من استطاع إثبات وجوده حتى أواخر القرن الرابع. وعندما استدعت القبائلُ القاسم العياني - في عمليةٍ تشبهُ استدعاء الهادي من قبل - كانت اليمن تغصُّ بثوار آل الهادي الذين لم يحظوا بأي نجاح. ورغم أن العياني ما استطاع فعل الكثير بسبب قِصَر مدته، فلا شك أنه اعتُبر ناجحاً تماماً مُقارنةً بالخارجين السابقين والمُعاصرين. ونحسبُ أن هذا كان السبب الرئيس لنزاعات القاسم العياني وأولاده وأحفاده مع آل الهادي وهادوية الزيدية. فقد أسس العياني أُسرةً حاكمةً استمرت حتى أواخر القرن الخامس تلعبُ دوراً ملحوظاً في السياسات بشمالي اليمن.
الوضع السياسي أنذاك
وكانت البلاد اليمنية كلُّها في هذه الفترة أي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، تعاني من فوضى ضخمة لسقوط الدويلات القوية بالتهائم وأعماق الجنوب، واستشراء الفوضى القبلية في الشمال.
يقول صاحب "أنباء الزمن": (من سنة (405/14-1015 إلى سنة 448/1056) عمَّ الخَرابُ صنعاء وغيرها من بلاد اليمن لكثرة الخلاف والنزاع وعدم اجتماع الكلمة الواحدة... وأظلم اليمن وكثُر خرابُهُ وفسدت أحواله... وكانت صنعاء وأعمالها كالحرقة، لها في كل سنة أو شهر سلطانٌ غالبٌ عليها، حتى ضعُف أهلُها وانتقلوا إلى كل ناحية. وتوالى عليها الخراب وقلّت العمارة في هذه المدة حتى أصبح عددُ دُورها ألف دار بعد أن كانت مائة ألف دار في عهد الرشيد... إلا أن صنعاء تراجعت بعض التراجع في زمن الصليحيين لما اجتمع لهم مُلك اليمن)(1).
__________
(1) أنباء الزمن 1/ 146 – 147، وقارن بغاية الأماني 1/ 240.(1/57)
وزاد الطين بلّةً استشراءُ القحط والمجاعات، والتخريب القَبلي والسلطوي المتبادَل للحياتين الحَضرية والريفية في غزوات الاستعادة، وإغارات السلب والنهب. وبسبب من ذلك كله تمكن علي بن محمد الصليحي الذي أعلن الدعوة للفاطميين عام (439 /47-1048) من اكتساح أكثر أجزاء اليمن في وقتٍ قصير. فقد كان عمادُ جيشه من المؤمنين بالدعوة الإسماعيلية، لا من المرتزقة أو القبائل المتقلِّبة الولاء.
ومع أن علي بن محمد كان همدانياً من بطن الأُصلوح، لكنه اصطدم في بدايات دولته، وهو يحاول بسط سلطته على البلاد ببطون همدان الكبرى، وبعض بطون حِميَرَ وخولان والحارث. وكانت وطأته على همدان بالذات بالغة الشدة، رمى من ورائها إلى كسر شوكتها وإخضاعها تماماً لسيطرته.
وهكذا خاض معها ومع حلفائها ثلاث معارك في سِنيّ حكمه الأُولى. وكانت آخر تلك المعارك (وقعة صَوف) أقساها عليها إذ افتتح الصليحي بعدها صنعاء التي كان أميرها الهمداني أبو حاشد بن يحيى بن أبي حاشد قد قُتل فيها مع ألفٍ من شجعان فرسان همدان وأشرافهم من مختلف البطون.
يقول مفرِّح بن أحمد في "سيرة الشريفين": (ونزل بالناس بلاءٌ عظيمٌ، وخَطبٌ هائلٌ جسيم...) (1).
ويقول مسلَّم اللحجي: (...كانت وطأةُ الصليحي على همدان وطأة المتثافل (2)حتى لم يَذَر لهم طِباخاً لأنهم كانوا أهمَّ أجناد اليمن عليه لوجوهٍ، أحدها: لشدتهم وفراستهم وشموخ أنوفهم عن الخضوع للملوك حتى أن الملوك لَتُداريهم، وتقبل المسالمة منهم، وتُحمل إليهم الجوائز والأموال الجمّة من زبيد وغيرها من ممالك شيعة بني العباس باليمن وغيرهم من المتغلبين على المخاليف...)(3).
__________
(1) السيرة /76.
(2) في لسان العرب وبعير ثفال: بطيء... الثفال: البطيء الثقيل الذي لاينبعث إلا كرها.مادة ثفل.
(3) تاريخ مسلّم 4/ 14 – 15.(1/58)
ثم يعودُ مسلَّم للمقارنة بين وضع همدان تحت وطأة الصليحي، وأوضاعها السابقة فيقول: (فأخبرني مسعود قال: أدركتُ همدان قبل خروج الصليحي ودعوته وهم ألف فارس في صنعاء والبَون وأعمالهما غير وادعة وبَكيل ويام وحَجور. وأدركت عنساً وهم ألف فارس أيضا، وبني الحارث بالرحبة وفيهم خمسمائة فارس... فلم يَزل الصليحي بهم حتى تركتهم دولته رحمةً للعالمين، وعبرة للناظرين، وقسّم ابنه بعده بلاد همدان وبلحارث والأبناء وعنس بين جنب وسنحان ونهد والحجازيين، وبين مَن كان من همدان من جنده)(1).
ويعلِّلُ هذا كلَّه مصير تلك القبائل للتحالف مع الأشراف القاسميين في محاولاتها للثأر من بني الصليحي واستعادة أرضهم وبلادهم التي سُلبت منهم.
لكننا نعلم أنه كانت للأشراف القاسميين آنذاك عصبيتهم الخاصة المتمثلة في الشيعة الحسينية. ونعرفُ الآن من أخبار مسلَّم الكثيرة عنهم ومن سيرة الأميرين أن المؤمنين بمهدية الحسين ورجعته في الجيل الأول كانوا في الأكثر من وادعة (من خولان)(2).
__________
(1) تاريخ مسلّم 4/15ـ16.
(2) جاء في سيرة الأميرين/331 ضمن كتاب لذي الشرفين: (وأما بلد وادعة الصريمي منهم والآخر فأكثرهم شيعتنا ومحابّنا. وبينهم المنازل والأموال. وأكثرنا عندهم من قديمٍ وحديث حال(1/59)
أما مَن بين الأشراف فقد انحصر الأمر في أعقاب القاسم بن علي العياني، وشريف اسمه عيسى بن عياش الرسي القاسمي يذكره مفرِّح في سيرة الأميرين بين أوائل أنصار القاسم بن جعفر، ويذكر مسلَّم اللحجي ابنه يحيى بين الشيعة الحسينية بعد ذلك بخمسين عاما(1).
وكنا من قبل قد تحدّثنا عن الأسباب التي قد تكونُ كامنةً وراء اعتقاد الحسين بن القاسم لمهديته، أما دوافع أنصار الفكرة من بين أفراد أسرته، وبعض البطون القَبَلية فقد تكمن في بعض خصوصيات شخصية الحسين بن القاسم نفسه، فقد قدّمته الأسرةُ على أخيه الأكبر جعفر بعد والده رغم صغر سنه، وتُظهر أخبار مسلَّم اللحجي عنه - من خلال ذكريات أتباعه على الأقل - أنه كان يتمتع بشخصيةٍ كَارِزْمِيّةٍ تثير الإعجاب والانجذاب من بعض فئات الناس.
والمعروف أن القاسم بن علي العياني نفسه عانى من تجذُّر تقاليد السلطة والمذهب باليمن في أعقاب الهادي والناصر، فكان لا بُدَّ من تأسيسٍ آخر للقاسميين خاصّ بهم يستطيعون بناءً عليه تثبيت دعائم سلطانهم الديني والسياسي.!!
- - -
__________
(1) في تاريخ بني الوزير ص32: أن القاسم بن علي العياني أعقب خمسة أولاد: علي، وسليمان، والحسين، وجعفر، ومحمد. أما أعقاب عليٍّ فكانوا في القرن الثامن بهجرة دار معين بالقرب من صعدة وقد انقرضوا. وأما أعقاب سليمان فكانوا بخيوان. وأما الحسين بن القاسم (المهدي) فلم يُعقِب غير ابنتين. وأما جعفر بن القاسم فله أولاد منهم أحمد بن جعفر جدّ أهل براقش وابنه القاسم بن جعفر له عقبٌ منهم بعض أهل غربان. وأما محمد بن جعفر ((فمن أولاده أكثر أهل غربان وشهارة، وقبره بشهارة...)).
ويذكر ابن الوزير في التاريخ ص211 أميراً اسمه فُليتة بن القاسم لزم (أَسَرَ) المتوكل أحمد بن سليمان بأثافت وكان من الحسينية. ويذكر المتوكل أحمد بن سليمان (في الحكمة الدرية /325) شريفاً اسمه القاسم بن محمد بن القاسم بن جعفر ((زعم أنه يشافه المهدي ويكالمه)).(1/60)