وما أورده السيد حميدان في كتابه ليس مقنعا كله، لا لأنه ينتزع الأقوال أحيانا من سياقاتها، ويؤولها على غير الظاهر منها أحيانا أخرى، بل لأن الحسين بن القاسم نفسه تختلف أقوالُهُ وتتناقضُ تبعاً لحالاته النفسية فيما يبدو، ولطبيعة اتهامات الخصوم ل‍ه. فقد كان مضطراً أحياناًً للتراجع عن بعض ما ادّعاه أمام هجمات الطاعنين، ثم يعودُ في رسالةٍ أخرى أو كتاب آخر لإثبات ما أنكره من قبلُ.
ويبدو أن محاولة السيد حميدان لتصوير المذهب الزيدي بصورةٍ معينة، بما في ذلك رأيه في الحسين بن القاسم وتُراثه، لم تحظ بالاستحسان الكامل من جانب الزيدية المعاصرين واللاحقين، وإن قرّظها بعض المعاصرين.
يقول يحيى بن الحسين (1099/87-1688) في "طبقات الزيدية": إن الإمام الناصر لدين الله صلاح الدين محمد بن علي (793/90-1391‍) لما قرأ مجموع السيد حميدان كتب للهادي بن إبراهيم: (مجموع اليسد حميدان قد وقفتُ على شيء منه. وفي كلامه حِدَّةٌ. وهو من فضلاء أهل البيت. والأقوالُ تختلف، ولقد وقفنا على شيء في علوم آل محمد لأحمد بن عيسى بن زيد وغيره مما يخالف القواعد الأصولية الكلامية. وفيه أشياء من كلام أهل البيت منسوبةٌ إلى أهل البيت ادّعا أنها عقيدة أهل البيت كافة. وفي النفس أن ذلك غير متسِق. ثم إن كلامه وإيراده على وجه الإلزام. وبنى على ذلك قاعدة التعليل. والتعليل الحقيقي لا يقعُ بالإلزام والإفحام. ولعله حذا حَذوَ القاسم بن علي العياني في كتاب الدعامة في تثبيت الإمامة، فإنه على هذا النحو...)(1).
__________
(1) طبقات الزيدية /124.(1/51)


وممن وقف مدافعا عن المهدي العلامة "محمد بن جعفر بن شبيل" قال في مقدمة سيرة الأميرين: قال القاضي الأَوحد الأفضل، العالم العامل الأكمل، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن الشبيل بن عبد الله (1) رحمه الله: لما سمعت من السيد الشريف الفاضل حميدان بن يحيى هذه المجموعات التي جمعها وذلك بعد أن نسختُها من الكراريس التي بخطه، ومن جملتها هذا الذي من كلام مولانا الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم سلام الله عليه ورضوانه قلتُ فيه أبياتا وهي هذه:
هذا إمامٌ عالمٌ عاملٌ ... أبرا إلى الرحمن من بُغضه
ومن مُوالاةٍ لأعدائه ... ومن غُلّوٍّ فيه أو رَفضِه
قف واتّق إله السما ... يا أيها الطاعنُ في عِرضه
إن تكُ منه اليوم مستقرضاً ... ففي غدٍ تندمُ من قرضه
أَدينُ أن الحقَّ ما قاله ... من صفة الباري ومن فرضه
وأنّ مَن في فضله قد غلا ... أكبر جُرْماً من ذوي بُغضه
فَخَفْ إله الخلق يا مَن غلا ... في خَلطٍ ما قد شيبَ في مَخضه
مثل ابن غطريف الذي لم يَقُلْ ... في كُلِّه الحقّ ولا بعضه
وردَّ ما قال ولم يَرضَهُ ... إذ أَسخط الله ولم يُرضه
صلى عليه الله من راحضٍ ... طاب فطاب الدينُ من رحضه)(2)
ولا تخرج معلوماتُ نشوان بن سعيد الحميري (573 هـ) كثيراً عما أورده الآخرون من قبل ومن بعدُ عن الحسينية. ويبدو أن الأكثرين يستندون في ذلك إلى مسلّم اللحجي والمتوكل على الله أحمد بن سليمان، ونشوان.
__________
(1) قارن عنه: طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين /124.
(2) انظر مقدمة سيرة الأميرين.(1/52)


يقول نشوان: (ومنهم - أي من الزيدية - فرقةٌ يُقالُ لها: الحسينية، يقولون إن الحسين بن القاسم... حيٌّ لم يمُت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً، وأنه القائم المهدي المنتظر عندهم. وكان قُتل يوم السبت الرابع من شهر صفر سنة أربعٍ وأربعمائة. وكان مولده في سنة ثماني وسبعين وثلاثمائة، قتلته همدان في موضعٍ من أعمال صنعاء. ويقولون في الحسين هذا إنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كلامه أبهَرُ من كلام الله. ويروون أن مَن لم يقل بقولهم هذا فيه فهو من أهل النار. ثم افترقوا فرقتين، فرقة تزعُمُ أنه يأتيهم في السر ولا ينقطع عن زيارتهم في حال مغيبه، وأنهم لا يفعلون شيئا إلا بأمره. وفرقة تُبطل ذلك، ويقولون إنه لا يُشاهَدُ بعد الغيبة إلى وقت ظهوره وقيامه وإنما يعملون بما وضع في كتبه)(1)
الجديد عند نشوان قسمته الحسينية (ربما في عصره) إلى فرقتين. وسيرة مفرِّح بن أحمد لا تشير إلى شيء من ذلك. لكن مسلَّماً اللحجيَّ يذكر في تاريخه ما يُشعِر بذاك الانقسام، فهو يذكر شريفا اسمه يحيى بن عياش الرسي القاسمي، وآخر اسمه محمد بن إبراهيم الصبري، كانا في عهد ولاية الشريف جعفر بن محمد بن جعفر بن القاسم على شهارة يزعُمان ظهوره لهما. وقد اختص الشريف ابن عياش بالقول إنه يظهر ل‍ه أيضا الخضر وعيسى بن مريم(2):
__________
(1) الحور العين /208، 211. وانظر فيما بعد نصاً في تاريخ بني الوزير ص210، يفيد أن والد نشوان ونشوان – في بدء أمره – كانا من الحسينية!
(2) تاريخ مسلَّم اللحجي 4/256، 260.(1/53)


(وكان قد استعمل استعمالاتٍ واحتال بحيلٍ قبلها القوم من عوام الحسينية، ولم يلتفتوا مع ذلك إلى تكذيب مَن كذّبه من الأشراف والشيعة، وما قالوا فيه من الشعر لا سيما أمير شهارة يومئذ جعفر بن محمد بن جعفر بن القاسم بن علي... وكان ابن عياش قد واعد الناسَ لظهور المهدي الحسين بن القاسم وقيامه بالأمر وقتاً عرّفه إليهم بابيضاض المَطْو - يعني عذق الذُرة وهو سنبلتها .. ولم يصح منه شيء فأجمع الناس على تكذيبه) (1)
والمعروف أن نشوان الحميري نفسه اشتبك مع الأمير عبد الله بن القاسم بن جعفر في نزاع حول حياة المهدي ورجعته اللتين نفاهما الحميري. وقد تهدّده الشريفُ بالموت فاعتذر نشوان بأن أبيات الذمّ للمهدي ليست ل‍ه، لكنه لم يخفِ عدم إيمانه برجعة الحسين بن القاسم).
الصراع الأدبي
أدى الخلاف حول المهدية إلى اندلاع صراع شعري عنيف بين نشوان وصهره الجعيد، وبين الأشراف العيانيين. قال العلامة المؤرخ أحمد الشامي: (والملاحاة بين نشوان والأشراف العيانيين، لها حديث طويل في تاريخ الأدب اليمني، وكان من أسباب إثارة تلك الملاحاة الشعرية كما يقول المؤرخ أحمد بن صالح أبو الرجال في"مطلع البدور" إن الفقيه العالم الأديب جُعَيد بن الحجاج الوادعي قال بيتين ينكر على من يقول من القاسميين بمهدوية الحسين بن القاسم العياني، وأنه حي لم يقتل وهما:
__________
(1) تاريخ مسلم اللحجي 4/260ـ261. وفي طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين 1/117 ذكرٌ للشريفين عبد الله بن جعفر بن القاسم و ((صنوه سليمان بن عبد الله بن جعفر بن القاسم؟)) وأنهما كانا من سكان الأهنوم، وعاصرا الإمام المنصور بالله، وبايعاه وأطاعاه. وفي اللآلي المضية 2/229 ذكر لشريفٍ اسمه فليتة من الأشراف القاسميين، ادّعا الإمامة أيام المتوكل أحمد بن سليمان فعيّره الأمير الحسين بن بدر الدين بمخالفة مذاهب آبائه في القول بمهدية الحسين بن القاسم! والمعروف أنه أسر الإمام بعد ذلك /229.(1/54)


أما الحسين فقد حواه الملحدُ ... واغتاله الزمن الخئون الأنكد
فتبصرّوا يا غافلين فإنه ... في ذي عرارٍ ويحكم مستشهد!
وكان الفقيه جعيد صهراً لنشوان، فلما ظهر هذا الشعر وطار في الآفاق اتهم الناس، وظن القاسميون أنه لنشوان بن سعيد، فقال الأمير عبد الله بن القاسم بن جعفر العياني قصيدة يشتم فيها نشواناً جاء فيها:
أما الصحيح فإن أصلك فاسدٌ ... وجزاك منا ذابلٌ ومهنّدُ!
فأجاب نشوان يذبّ عن نفسه بقصيدة طويلة، منها:
من أين يأتيني الفساد وليس لي ... نسبٌ خبيثٌ في الأعاجم يوجدُ
لا في علوج الروم جد أزرق ... أبداً ولا في السود خالٌ أسود
فدع السفاهة إنها مذمومة ... والكف عنها في العواقب أحمد
والله ما مني نظام جاءكم ... فيه يقول حوى الحسين الملحد
ولقد أُتيتُ به فقمت مبادراً ... عجلاً أمزّق طرسَه وأقدّد
فأشاعه من ظن أن ظهوره ... في الناس مكرمة عليها يحسد
أغضبتم أن قيل مات إمامكم ... ليس الإمام ولا سواه يخلّد
لا عار في قتل الإمام عليكم ... القتل للكرماء حوض يورد
إن النبوة بالنبي محمدٍ ... ختمت وقد مات النبي محمد
ومنها:
إني من النسب الصريح إذا امرؤ ... غلبت عليه العجم فهو مولد
ما عابني نسب الإماء ولا غدا ... باللؤم معرقهن لي يتردّد
فدع التهدد بالحسام جهالةً ... فحسامك القطاع ليس ل‍ه يد!
من قد تركت به قتيلا أنبني ... ممن توعّدُهُ ومَن تتهددُ؟
إن لم أمت إلا بسيفك إنني ... لقرير عين بالبقاء مخلد!
اسكت فلولا الحلم جاءك منطقٌ ... لامَيْنَ فيه يذوب منه الجلمد
ينبي بأسرارٍ لديك عجيبة ... لكن جميل الصفح مني أعودُ!) (1)
- - -
أما أوسع المعلومات عن مصائر الشيعة الحسينية في جيلها الثالث، أي في النصف الأول من القرن السادس الهجري، فيملكها مسلَّم اللحجي في الجزء الرابع الباقي من تاريخه.
__________
(1) تاريخ اليمن الفكري 2/216 – 217.(1/55)

11 / 58
ع
En
A+
A-