(3) جوابات على سؤالات بكر بن حارثة
التعامل مع أئمة الجور
حدثني منصور، قال: حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثني عمارة بن زيد، قال: حدثني بكر بن حارثه، قال:
كتب رجلٌ من أهل الشام إلى الإمام أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين عليه السلام، يذكر: إنه جاءنا مَنْ أخبرنا عنك أنك تقول: إن الصلاة لا تقبل - في أيام إمام الجور - من المصلين، وكذلك سائر الفرائض. فما ذَنْبُنَا إذا قُهِرْنَا على أنفسنا، وغلب علينا أهل الجور؟ وما حيلتنا؟
فأنكر ذلك الإمام أبو الحسين ، ولعن من أخبر بذلك عنه، وكتب عليه السلام إلى الشأم بخطه:
جاءني كتابك [الذي] ذكرت فيه أنه جاءكم من أخبركم أني قُلْتُ: إن الصلاة لا تقبل في أيام إمام الجور من المصلين، وكذلك سائر الفرائض، وقُلْتَ: فما ذنبنا إذا قُهرنا على أنفسنا، وغلب علينا أهل الجور؟ وما حيلتنا؟ فلم أقل ذلك بحمدالله، ولم أكذب على اللّه قَطُ، وأي سماء تُظِلُّني، وأي أرض تُقِلُّني، إذا قلت على اللّه مالم يُنَزِّل به سلطاناً؟!
بل أقول: إن العارِفَ بما عليه أهلُ الجورِ وبمنزلة الظالمين الفاسقين، المُفَارِقُ لهم بقَلْبِه، المباينُ لهم بعَمَلِه، العالمُ بمنزلة أهل الحق وما يجري عليهم في دُوَل الكافرين، وسلطان الجائرين، الذي يعمل بطاعة اللّه، ويريد ثوابَ اللّه - وإن كان في جماعتهم وبين ظهرانيهم - يضاعف اللّه له الأجر، ويُكْمِلُ له ثَوَاب المحسنين، ويَتَقَبَّل منه تقبله من المؤمنين المتقين.
وكيف يأخذ اللّه المحسن بالمسيء إذا كان مقهوراً ؟! ولكن من كَثَّر جماعتهم وأعانهم على ظلمهم وجِبَايَاتِهم، واكْتَتَبَ في ديوانهم، فهو شريكهم ومنهم، وإذا ذكروا اللّه بألسنتهم لعنتهم الملائكة، وحَلَّ عليهم سَخَطُه ونِقْمَتَه.(1/256)
وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وقد قال سبحانه وتعالى: ?إِلا مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ?[الزخرف: 68] ، فمن جاءك عني بأمر أنكره قَلَبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّي، ولم تفقهه عَنِّي، ولم تره في كتاب اللّه عز وجل جائزاً، فأنا منه برئ، وإن رأيت ذلك في كتاب اللّه عز وجل جائزاً، وللحق مُمَاثِلاً، وعهدت مثله ونظيره مني، ورأيته أشبه بما عهدته عني، وكان أولى بي في التحقيق، فأقبله فأن الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع.
وذكرت أن قوماً ذكروا أن اللّه سبحانه وتعالى جعل رعاية عباده إلى الملوك، وجعل ذرية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كسائر رَعِيَّةِ الملوك، وأنه ليس لأحد من ذرية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم إزالة ما جعله اللّه سبحانه وتعالى للملوك، لأن اللّه تعالى قد قال: ?قُلْ الَّلهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِيْ المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيْرٍ?[آل عمران:26] فقد كَذَبَ القائلون هذا على اللّه عز وجل، وأحالوا جميع الحق وأزالوه عن مَعْدِنِه.
فنحن الذين مَلَّكَنا اللّه تعالى الملك وآتاناه، واسترعانا رِعَاية عباده، وذلك حين يقول سبحانه: ?أَمْ يَحْسُدُوْنَ النَّاسَ عَلَى مَاآتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيْماً?[النساء:54]، ونحن الذين أعَزَّ اللّه تعالى، وَعَدونا من أذَلَّ اللّه تعالى، وإن كان عَدُوُنا غالباً بسلطان الجور، فالله برئ منه وممن زعم أنَّ أمره من اللّه تعالى.(1/257)
وكيف يكون كذلك واللّه تعالى يقول فيهم: ?وَمَنْ لَمْ يَحُكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُوْنَ?[المائدة:44]، ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ?[المائدة:45]، ?مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُوْنَ?[المائدة:47]؟!
كيف يسترعي اللّه سبحانه وتعالى الجائرين الكافرين الظالمين الفاسقين عِبَادَه، ويأتَمِنُهم على خَلَقِه، ويجعلُهم أئمة المؤمنين من بَرِيَّتِه، وأمناؤه على دِيْنِه، وما أفاء اللّه على المؤمنين من الكافرين به، وهو يقول: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدُعُوْنَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَيُنْصَرُوْنَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فَيْ هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَهً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِنَ المَقَبُوْحِيْنَ?[القصص:41-42].
وأنا أنهاك أن تَسْكُنَ بقلبك إلى ما هم فيه مُتْرفَون، وبه مُمُتَّعون، فتظن أنهم من اللّه تعالى بسبيل، فتهلك إذ ظننت بالله ظن السوء.
وأوصيك بالله عز وجل وبكتابه، وبأهل دِيْنِه فاللهُ تعالى لمن اعْتَصَم به وبكتابه وبأهل دِيْنِه مجيرٌ، والله سبحانه لمن اهتدى إليه أرأف وأرحم ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ? [الشعراء: 227].(1/258)
في تسليم السارق إلى أهل الجور
وسأل حارثة أمير المؤمنين أبا الحسين زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام فقال: جُعِلْتُ فداك، ما تقول في رجل أخذ سارقاً قد سرق، أيدفعه إلى هؤلاء الذين يجورون في الأحكام، ويأخذون الأموال بغير حقها؟
فقال عليه السلام: ويحك إن السارق كالجائر في الأحكام [سلمه إليهم] ووله ماتولى.
حكى خليفة بن... عن حسين بن زيد عليهما السلام قال: أُخذ سارقٌ فسُئِل أبي رضى اللّه عنه. فقال عليه السلام: ولوه من [تولى، ادفعوه] إلى السارق يقطع يده.(1/259)
فيمن تدفع إليه الزكاة
قال بكر بن حارثة سمعت الإمام أبا الحسين زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام يقول: من قصد بصدقته إخوانه المؤمنين فقد وضعها في موضعها، وأدَّاها إلى أهلها، ومن لم يفعل فقد ظلم، فَتَخَيَّروا لها إخوانَكم من أهل العَفَاف، فإن لم تقدروا عليهم فضعوها في الفقراء من الأمة، ولا تقولوا: لا نجد مؤمناً! فإن القوم قد دخلوا في دين الإسلام وباب الدعوة.
قال [الحسين بن زيد]: وسُئِل أبي: فيمن نَضَعُ فُضُول أموالنا وزكاتنا وصدقاتنا؟
فقال عليه السلام: ضعوا جميع ذلك في إخوانكم المؤمنين، فإن لم تجدوا ذا فاقة منهم، فتتبعوا من رأيتموه فقيراً إذا كانوا في دامج الإسلام وباب الدعوة.(1/260)