كلام الشامي
قال خالد بن صفوان: فأدخلتهم على زيد بن علي، وفيهم رجل قد انقادَ له جميع أهل الشام في البلاغة والبَصَرِ وبالحُجَجِ، فلما دخلوا عليه سَلَّمُوا عليه ثم جلسوا، فقال لهم: ليتكلم متكلمكم.
فتكلم الشامي البليغ، فذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم ذكر أبا بكر وعمر، إلى أن ذكر عثمان بن عفان أنه كان الخليفة والمظلوم، وكانت الجماعة معه وأنه إنما قُتِلَ مظلوماً، وأن اللّه عز وجل رَدَّ الخلافة في موضعها، وهم قرابة عثمان!! حين اجتمع الناس على بيعة معاوية بن أبي سفيان، ويزيد، وعبد الملك، والوليد، وسليمان، فجعل يذكر ملوك بني أمية واحداً واحداً، ويقول: إنه لم يكن جماعة قط إلا كانت على حَقٍّ، وهم أولى بالحق، وأهل الحق؛ لأنهم - يعني بني أمية - قَرَابة الخليفة المقتلول ظلماً، فمن نَاصَبَهُمْ فهو يطلب غير الحق، ويطلب ما ليس له، ولا هو له مستحق!!
قال خالد بن صفوان: وزيد بن علي في كل ذلك مُطْرِقٌ.(1/226)
جواب الإمام زيد على الشامي في أمر عثمان
فلما قضى الشامي كلامه، قال له زيد بن علي: إنك زعمت أن عثمان إنما قتله خاصٌ، وأن الجماعة كانت معه، وأنه قُتِلَ مظلوماً، والله ما قتله إلا جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار ومن الذين اتبعوهم بإحسان، لا أنَّ [كل] المسلمين قتلوه، ولكن بعضٌ قَتَلَه وبعضٌ خَذَلَه، فكلٌ مُعِيْنٌ بقتاله الظالِمَ، لأنه كالجنائز إذا حضرها بعض المسلمين أغنى ذلك وأجزى عن الباقين، وكذا الجهاد في سبيل اللّه، إذا قام به بعض المسلمين أغنى ذلك وأجزأ عن القاعدين، ...، فقتله أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكتاب اللّه تعالى، حين خالف كتاب اللّه تعالى، وكان أول الناكثين على نفسه، وأول من خالف أحكام القرآن، آوى طريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الحكم بن أبي العاص، ومروان ابنه.
مع نَفْيِه أبا ذر رحمه اللّه تعالى من المدينة إلى الرَّبذَة، وإنما ينفى عن مدينة رسول اللّه صلى اللّه الفُسَّاق والمخبثون. ومع ضربه ابن مسعود
رضي اللّه عنه حتى مات.ومع مشيه على بطن عَمَّار بن ياسر رحمة اللّه عليهما حتى سَدِمَ من ذلك دهراً طويلا، ومع أخذه مفاتيح بيت مال المسلمين من عبدالله بن الأرقم، وإنفاقه المال على من أحب من أقاربه.
[قال خالد بن صفوان]: وأشياء كثيرة ذكرها وعددها. فإعجم القوم عن جوابه، لأنه جاءهم بأمر حَيَّرهم، فقالوا له: صَدَقْتَ ياابن رسول اللّه، والحَقُ ما قلت، إن القوم لم يقتلوا عثمان إلا عن أمر بَيِّنٍ، وخلاف ظاهر، وجورٍ شامل، ونكث.(1/227)
الجواب على الشامي في القلة والكثرة
ثم أقبل على الشامي البليغ بزعمهم، فقال له:
أما ماذكرت من أنها لم تكن جماعة قط إلا كانوا أهل حق. فإنهم ولوا معاوية بن أبي سفيان فاستأثر بفيء المسلمين، واضطر أهلَ الشام إلى خِدْمَةِ اليهود والنصارى، وأعطى الأموال مَنْ أحَبَّ من الفساق، فأَيْتمَ الأطفال، وأَرْمَلَ الأزواج، وسَلَبَ الفقراء والمساكين، ثم قَدَّموا بعده ابنه يزيد، فقتل الحسين بن فاطمة صلوات اللّه عليهما، وساروا إليه ببناته حُسَّراً على نُوْقٍ صِعَابٍ، وأقْتَابٍ عَارِيةٍ، كما يفعل بسبي الروم، فلوا أن اليهود أبصرت إبناً لموسى بن عمران لأكرمته وأجلته وأجلت قدره، ولعرفت حقه.
فكيف زعمت أن جماعة قَدَّموا رجلا على أمانتهم فَقَتلَ ولدَ نبيهم ثم سكتوا على ذلك، ولم يكن عليه في ذلك منهم نكير، فكيف زعمت أن هؤلاء جماعة، أو هم على حق؟!
والله تعالى قد مَدَح القليل إذْ كانوا على حَقٍ، ألا تسمع إلى قوله تعالى في داوود: ?وإِنَّ كَثِيْراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِيْ بَعْضُهُمْ عَلَىْ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيْلٌ مَاهُمْ? [ص: 24]، فقد ذَمَّ اللّه تعالى الكثير ومَدَح القليل، وقال تعالى: ?فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُوْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِيْ الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيْلا?[هود: 116] كما ترى، وقال تعالى في قوم نوح: ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إَلاَّ قَلِيْلٌ?[هود:40]، وقال تعالى: ?وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُوْرُ?[سبأ: 13] وقال تعالى: ?وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوْهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ مِنْهُمْ?[النساء: 66].(1/228)
وقال تعالى في ذَمِّ الجماعة والكثير: ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِيْنَ?[يوسف: 103]. وقال تعالى: ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِيْ الأَرْضِ يُضِلُّوْكَ عَنْ سَبِيْلِ اللّه?[الأنعام: 116].
وقال تعالى: ?أَمْ تَحْسِبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ أَوْ يَعْقِلُوْنَ إَنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيْلاَ?[الفرقان: 44]، وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنَّ كَثِيْراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأكُلُوْنَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّوْنَ عَنْ سَبِيْلِ اللّه?[التوبة: 34]. وقال تعالى: ?وَإِنَّ كَثِيْراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُوْنَ?[المائدة: 49].
حتى عدد في ذم الكثرة أكثرمن مائة وعشرون آية، وقريباً من ذلك في مدح القلة.
قال خالد بن صفوان: مع أن كثيراً قَدْ ذَكَر في كتاب اللّه ما حفظت منه إلا هذا، فلم يذكر كثيراً إلا ذمه، ولم يذكر قليلا إلا مدحه، والقليل في الطاعة هم الجماعة، والكثير في المعصية هم أهل البدع.
قال خالد بن صفوان: فَبَسَر الشامي فلا أحْلَى ولا أمَرّ، وسكت الشاميون فلم يجيبوا لا بقليل ولا بكثير، ثم قاموا من عنده فقالوا لصاحبهم: فعل اللّه بك وفعل، غررتنا وزعمت أنك لا تدع له حجة إلا كسرتها، فَخَرِسْتَ فلم تنطق.
فقال لهم: ويلكم، كيف أكلم رجلا إنما حاجَّني بكتاب اللّه، فلم أستطع أن أكذِّب كتاب اللّه تعالى.
فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك: ما رأيت في الدنيا قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج والخير على أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين.
[تم بحمد اللّه](1/229)
من خطب ومقالات الإمام زيد
(1) من خطبة له يذكر فيها آداب الجهاد
قال أبو مخنف في أخبار الإمام زيد بن علي: لما قدم أبو الحسين زيد بن علي بلغه أن غالية من الشيعة يقولون: نحن نحكم في دماء بني أمية وأموالهم برأينا، وكذلك نفعل برعيتهم، فلما بلغه ذلك قام خطيباً وقال:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
أيها الناس إنه لا يزال يبلغني منكم أن قائلا يقول: إن بني أمية فَيْئٌ لنا، نخوض في دمائهم، ونرتع في أموالهم، ويقبل قولنا فيهم، وتُصَّدق دعوانا عليهم!! حكم بِلا علم، وعزم بلا روية، جزاء السيئة سيئة مثلها، عجبت لممن نطق بذلك لسانه، وحدَّثته به نفسه، أبكتاب اللّه أخذ؟ أم بسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم حكم؟ أم طَمَعَ في ميلي معه، وبسطي يدي في الجور له؟ هيهات هيهات، فاز ذو الحق بما يهوى، وأخطى الظالم بما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل ذي دعوى على حجته، وبهذا بعث اللّه أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولم يخُطِ المنصفُ حضَّه، ولم يُبْقِ الظالم على نفسه، أفلح من رضي بحكم اللّه، وخاب من أرغم الحقُّ أنفَه، العدل أولى بالآخرة ولو كره الجاهلون.
حق لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ولمن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الحق، كل نفس تسموا إلى مناها، ونعم الصاحب القنوع، وويل لمن غَصَب حقاً، أو ادعا باطلا.
أيها الناس، أفضل العبادة الورع، وأكرم الزاد التقوى، فتورعوا في دنياكم، وتزودوا لآخرتكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وإياكم والعصبية، وحمية الجاهلية، فإنهما يمحقان الدِّين، ويورثان النفاق.(1/230)