فأبى اللّه أن يقبل العمل الصالح إلا بالإيمان، ولا يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، فقال تعالى: ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِبُ وَالعَمَلُ الْصَّالِحُ يَرفَعُهُ?[فاطر: 10]، وأبى اللّه أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان، ولا يقبل الإحسان إلا بالإسلام.
ثم أنزل تبارك وتعالى: ?إِنْ تَجْتَنِبُوْا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَريْماً?[النساء: 31]. فكل كبيرة ما وعد اللّه تعالى عليها النار.
ثم أنزل تعالى بعد ذلك: ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيْهَا وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيْماً?[النساء: 93].
وقال اللّه عز وجل: ?فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفَسِدُوْا فِيْ الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوْا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمْ اللّه فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٍ أَبِصَارَهُمْ?[محمد: 22 - 23]. وحين تَوَلَّى الذين أفسدوا في الأرض تَوَلَّوْا عن طاعة اللّه وقطعوا الرحم، فإن لقي أخاه من المسلمين ضرب عنقه وأخذ ماله. والله تعالى يقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ?[الحجرات: 10]، فإذا قتله برىء من أخوته وصار خصمه وعدوه يوم القيامة.
وتصديق ذلك: لو أن أخوين لأب وأم قتل أحدهما صاحبه لم يرث الذي بينهما من الميراث.
وقال اللّه تبارك وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَأَكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ بَيْنَكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيْماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيْهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيْراً?[النساء: 29 - 30].(1/16)


فسلهم حين أصلاه اللّه تعالى النار أخرجه من رحمته إلى غضبه؟ فإنهم سيقولون: نعم . فقل: هل أخرجه اللّه وهو في عداوته، أو في ولايته؟ فإن قالوا: هو في عداوته فقد صَدَقُوا. وإن قالوا : يعذبه اللّه وهو في ولايته فقد كذبوا وافتروا على اللّه الكذب؛ لأن اللّه تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه ولي كل مؤمن؛ وأن إبليس قال لربه: ?رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُوْنَ قَالَ فِإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَريْنَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُوْمِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِيْنَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِيْنَ?[ص: 79 - 83]، فهل من ذرية آدم أحدٌ لم يغوه إبليس إلا عباد اللّه المخلصين؟
قل: فمن أي الفريقين هذا الذي أكل المال وسَفَكَ الدَّم الحرام؟ ممن أغواه إبليس؟ أو من عباد اللّه المخلصين؟ فإنه لا بد له أن يكون من أحد الفريقين، فإن قالوا: لا ندري من أي الفريقين. لُبِّسَ عليهم دينهم وشكوا في أمر ربهم، وعمي عليهم أمرهم الذي ينتحلون؛ لأنه إنما سَفَك الدَّم وقَطَع الرَّحم وأكل المال بطاعته إبليس وغوايته.
وقال اللّه عز وجل:?وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُوْرٍ?[لقمان: 32]، والخَتَّار: الغَدَّار. ومن غدر بميثاقه كفر، قال اللّه تعالى: ?وَالَّذِيْنَ يَنْقُضُوْنَ عَهْدَ اللّه مِنْ بِعْدِ مِيْثَاقِهِ وَيَقْطَعُوْنَ مَا أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوْصَلَ وَيُفْسِدُوْنَ فِيْ الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الَّلعْنَةُ وَلَهُمْ سُوْءُ الدَّارِ?[الرعد: 25]، وقال تعالى: ?يَآأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَخُوْنُوْا اللّه وَالرَّسُوْلَ وَتَخُوْنُوْا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ?[الأنفال: 27]، فمن خان أمانته خان اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم.(1/17)


وتصديق ذلك أن اللّه تعالى قال: ?وَمَا كَانَ لِنَبِيٍ أَنْ يَغُلَّ وِمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[آل عمران: 161]، أفيأتي بالغل يوم القيامة، فيلقيه في النار، ويدخل الجنة؟ فما أرى إذاً الغِلَّ الذي جاء به - يحمله يوم القيامة - ضَرَّه شيئاً إن كان كما يقولون: ((إذا قال: لا إله إلا اللّه دخل الجنة)). أليس القول حقيقة من العمل.
وقال اللّه تعالى: ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الْطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الْصَّالِحُ يِرْفَعُهُ?[فاطر:10]. فأصل القول العمل.
وقال اللّه تعالى: لمحمد صلى اللّه عليه وآله سلم: ?وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِيْنَ يَخْتَانُوْنَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيْماً?[النساء: 107]. إنما أنزلت هذه الآية في أهل القبلة الذين خاصموا عن الرجل الذي خان الدرع من اليهودي، وهو الذي أنزلت فيه: ?إِنَّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء: 48] ولو مات خائناً قبل أن يشرك بالله شيئاً أدخله اللّه تعالى النار، إن اللّه تعالى لا يدخل الجنة إلا من يحب.
وموجبات العذاب نزلن بعد الآيات التي نزلت في (سورة بني إسرائيل) التي ذكر فيهن: القتل والعهد والزناء وأكل مال اليتيم، وأشباه ذلك من الكبائر التي لم يكن اللّه وعد عليها النار، حتى بلغ: ?وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّه إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِيْ جَهَنَّمَ مَلُوْماً مَدْحُوْراً?[الإسراء: 39]، فأوجب تعالى لمن عمل بهؤلاء الآيات النار، الذين لم يكن أوجب عليهم النار في سورة بني إسرائيل بمكة.(1/18)


فإن اللّه لايقبل العمل إلا من المتقين، وكيف يكون من المتقين من أقام على الزناء والقتل وأكل مال اليتيم ونقض العهد والميثاق والفساد في الأرض والإقامة على المعاصي؟ والتقوى ليست قولاً بغير عمل، إنما التقوى: الإيمان والعمل بحقيقة الإيمان، قال اللّه تعالى: ?يَآأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوْتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ?[آل عمران: 102]، وقد سماهم اللّه تبارك وتعالى مؤمنين حين أسلموا وأخْبَتُوا وصدقوا بما جاء به نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم، من أمرهم بالتقوى والعمل، فقال تعالى: ?يَآأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللّه وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَلاَ تُبْطِلُوْا أَعْمَالَكُمْ?[محمد: 33] وقال تعالى للمؤمنين: ?لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِيْ كُنْتُمْ تُوْعَدُوْنَ?[الأنبياء: 103].
وقال تعالى: ?الَّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ الربَا لاَ يَقُوْمُوْنَ إِلاَّ كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوْا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربَا وَأَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الربَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّه وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ?[البقرة: 275]. فإن زعموا أن هذا مشرك فقد كذبوا، لأن اللّه تعالى يقول: ?يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللّه وَذَرُوْا مَا بَقِيَ مِنَ الربَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوْا فَأْذَنُوْا بِحَرب مِنَ اللّه وَرَسُوْلِهِ?[البقرة: 279]، فصار حربَ اللّه حين أقام على الربا من غير شرك بالرحمن، ولا شك فيما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .(1/19)


إن اللّه تبارك وتعالى أمر الناس بالتقوى فمن اتقى مات مسلماً ومن لم يتق مات وهو كافر وإن كان يدعي الإسلام.
تصديق ذلك قوله تعالى في (المائدة) - وهي آخر القرآن هي و(براءة) وهي ناسخة-: ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذَ قَربَا قُربَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ لَئِنْ بَسَطْتَّ يَدَكَ إِلَيَّ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبِاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رِبَّ الْعَالَمِيْنَ إِنِّي أُريْدُ أَنْ تَبُوْءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُوْنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْظَّالِمِيْنَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيْهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِريْنَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِيْ الأَرْضِ لِيُريَهُ كَيْفَ يُوْارِيَ سَوْءَةَ أَخِيْهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُوْنَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوْارِي سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِيْنَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ إِفْسَادٍ فِيْ الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيْراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِيْ الأَرْضِ لَمُسْرِفُوْنَ?[المائدة: 27 - 32]، فإذا قَتَلَ قتيلا بغير نفس أو فساد في الأرض كان مسرفاً، قال اللّه تعالى:?وَأَنَّ الْمُسْرِفِيْنَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ?[غافر: 43] .(1/20)

4 / 55
ع
En
A+
A-