سبحانه وتعالى عما تَقُولُ المُجْبِرةُ والمشبِّهةُ علواً كبيراً. إذ زعموا أن اللّه سبحانه وتعالى خَلَقَ الكُفْرَ بنفسهِ، والجحودَ والفِرْيَةَ عليه، وأن يَدَهُ مَغْلُولة، وأنه فقير، وأنه سفيه، وأنه أَفَّك العباد، ثم قال: ?أَنَّى يُؤْفَكُونَ?[المنافقون: 4]، وصرفهم وقال: ?أَنَّى يُصْرَفُونَ?[غافر: 69]، وقال: ?سَابِقُوا?[الحديد: 21]، ولم يعطهم آلةً للسِّباق. وأنه خلقهم أشقياء، ثم بعث إليهم رسولا يدعوهم إلى السَّعادة، وأنه أجبرهم على المعاصي إجباراً، ثم دعاهم إلى الطاعة ولم يُخَلِّ سبيلهم إليها، ثم غَضِبَ عليهم وعاقبهم بِغَرَقٍ وحَرْقٍ واصْطِلام بِقَوَارع النِّقَم، وجعل موعدهم جَهَنَّم. وأنه جاء بالإدِّ فأدخله في قلوب الكافرين، ثم قال: ?لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدَّا?[مريم: 89] سخطا منه لِخِلْقَةٍ فطرها.
وأنه لم يجعل للقلوب استطاعة لدفع ما دَهَمَها وحَلَّ بها، إذْ أجبرها عليه، وجَبَلَها له، فنسبوا إلى اللّه تبارك وتعالى المَذَمَّات، ونفوها عن أنفسهم من جميع الجهات، فقالوا: منه جَمِيْعُ تَقَلُّبِنَا في الحركات، التي هي: المعاصي، والطاعات، وإنه محاسبنا يوم القيامة على أفعاله التي فعلها، إذْ خَلَقَ: الكفر، والزِّنا، والسَّرقة، والشِّرك، والقتل، والظلم، والجور، والسَّفَه. ولولا أنه خَلَقَها - زعموا - ثم أجْبَرَنا عليها، ما قَدَرْنَا على أن نَّكْفُرَ، وأن نُشْرِكَ، أو نُكَذِّب أنبياءه، أو نجحد بآياته، أو نقتل أولياءه، أو رُسُلَه، فلما خَلَقَهَا وجَبَرَنا عليها، وقَدَّرها لنا، لم نخرج من قضائه وقَدَرِه، فَغَضِبَ علينا، وعذَّبنا بالنار طول الأبد.(1/151)


كلا وباعِثِ المرسلين، ماهذه صِفَةُ أحكم الحاكمين، بل خلقهم مُكَلَّفِين مستطيعين مَحْجُوْجِيْنَ مأمورين منهيين، أمرنا بالَخْيرِ ولم يمْنَعْ منه، ونهى عن الشَّر ولم يُغْرِ عليه، وهداهم النجدين - سبيل الخير والشر -، ثم قال: ?اعْمَلُوا?، فكلٌ مُيَسَّر لما خُلِقَ له مِنْ عَمَلِ الطاعة، وترك المعصية، وقال تعالى: ?خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيْلَ يَسَّرَهُ?[عبس:20- 21]، وقال تعالى:?فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الجَحِيْمَ هِيَ المَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ ربهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى?[النازعات: 37- 41]، وقال تعالى: ?فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى?[الليل: 5 -10]، وقال تعالى: ?لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِيْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُها الأَتْقَى الَّذِيْ يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى?[الليل: 15- 18]، وقال تعالى: ?وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ?[الزخرف: 76]، و?لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُوْنَ?[المائدة: 79]، و?جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ?[الواقعة: 24]، ?مَا كَانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْمَاً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّن لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ?[التوبة: 115]، فنفتِ المجبرة والمشبهة عن أنفسهم جميع المَذَمَّات، والظلم، والجور، والسَّفَه، ونسبوها إلى اللّه عزوجل من جميع الجهات. فقالوا: خلقنا اللّه أشقياء، ثم عَذَّبنا بالنار، ولم يظلمنا. فأي استهزاء أعظم من هذا، وأي ظلم أوضح، أو جور أبْيَن مما وصفوا به اللّه عزوجل؟!(1/152)


كلا ومالك يوم الدين ما هذه صفة أرحم الراحمين، من يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال سبحانه: ?لاَ يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة: 286] و[وسعها] : طاقتها. بل كلفهم أقل مما يطيقون، وأعطاهم أكثر مما يَسْتَأهلون، لم يلتمس بذلك منهم عِلَّة، ولم يغتنم منهم زَلَّة، ولم يخالف قضاءه بقضائه، ولا قَدَرَه بقدره، ولا حكمَهُ بحكمه، تعالى عما تقول المجبرة والمشبهة علواً كبيراً، إذ شبَّهوا اللّه سبحانه بالجِنِّ والإنس؛ لأن الظلم، والجهل، والفسوق، والفجور، والكفر، والسَّفَه لا تكون إلا من الجِنِّ والإنس.
ثم مع ما قالوا على اللّه عزوجل من الإفك والزُّور، أزْرَوْهُ بالعداوة، في أوليائه - القائلين بعدله وتوحيده، الموقنين بوعده ووعيده، المُوفِيْنَ بعهده الذي عاهدهم عليه، المستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها - فنسبوهم إلى الكفر، ورموهم بفِرْيَة الأباطيل. وما أحسن أثر أولياء اللّه تبارك وتعالى على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، إنهم منهم لفي جَهْد شديد؛ إن سكتوا عنهم قالوا: ناقمين، وإن ناظروهم، قالوا: مخالفين، وإنْ خالفوهم قالوا: كافرين.
فذلك صفتهم في الأولين والآخرين، فـ?إِنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلاً?[الأعراف: 146].
وقال جل ذكره: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِيْنَ?[النمل: 14]. والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد الأمين، وعلى آله الأكرمين.
[تم بحمد اللّه الجواب على المجبرة](1/153)


كتاب مدح القلة وذم الكثرة
سند الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشريف أبو عبد الله العلوي: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن علي بن عمر الكوفي، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن العباس بن الوليد المقانعي، وأخبرنا أبو القاسم علي بن محمد بن حاجب، قال حدثنا محمد بن الحسين الأشناني، قالا: حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن راشد، قال: حدثنا العباس بن الفضل الوراق، قال: حدثني عمرو بن عبد الغفار الفقيمي البصري، قال: حدثنا عطاء بن مسلم الخفاف (بن أبي سلمة)، عن خالد بن صفوان بن الأهتم التميمي.(1/154)


لقاء خالد بن صفوان بالإمام زيد في الرصافة
قال خالد بن صفوان: قدم علينا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الرصافة رصافة هشام فبلغني فصاحته وكثرة علمه وبيان حجته، فدخلت عليه وهو متكئ وبين يديه حنطة مَقْلُوَّة يقضم منها، فسلمت عليه.
فحمدت اللّه تعالى وأثنيت عليه، وذكرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وما أكرمه اللّه به، وذكرت حيث توفاه اللّه تعالى فبايع الناس أبا بكر، فذكرت عدله، وسيرته، ثم ذكرت عمر بمثل ذلك، ثم عثمان بمثل ذلك، وذكرت فضله واختيار الناس وتفضيلهم إياه على سائر الناس، ورأوا أنه ليس أحد أحق بالخلافة منه.
وزيد بن علي يتبسم إلي، وهو يقضم حبة بعد حبة.
ثم قلت: فوثب عليه قوم ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار فقتلوه، فلن يزالوا في فتنة إلى يوم الناس هذا.
فاستوى زيد بن علي فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وذكر ما اختصه اللّه به من الكرامة، واختيار اللّه إياه فبلغ رسالته، فلما قبضه اللّه إليه انطلق المسلمون إلى رجل صالح فبايعوه، ثم بايعوا بعده رجلا، ثم انطلقوا بعده إلى رجل ظنوا به الخير، وظنوا أنه سيجري مجرى صاحبيه، فمكثوا زماناً ثم نقموا عليه شيئاً بعد شيء، حتى إذا آوى أقاربه السفهاء والطلقاء وأقصى المهاجرين الأولين والأنصار، وآذاهم وأخرجهم من ديارهم، فاستعتبوه مرة بعد مرة، فأبى إلا اختيار أهل بيته والأثرة لهم، وكان المسلمون عليه بين قاتل ومحضض خاذل.
فلما قتل انطلق ولاة هذا الدين من المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم من التابعين لهم بإحسان إلى ((أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام)) حتى أخرجوه من بيته فبايعوه غير مكرهين، ثم أنهم نكثوا بيعته - يعني طلحة والزبير - من غير حَدَث، فلو أن الذين نكثوا بيعته نكثوا على أبي بكر وعمر لاستحل أبو بكر وعمر قتالهم.(1/155)

31 / 55
ع
En
A+
A-