فإن قالوا: قد أوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن لا ندري إلى من أوصى. فإن في القرآن ما يستدلُّ به على وَصِيِّه، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان خير الناس وأعلم الناس؛ فينبغي أن يكون وصيه من بعده خيرهم وأعلمهم، وأطوعهم لأمره، وأنفذهم لوصيته، وأوثقهم عنده.
وقد بَيَّن اللّه تبارك وتعالى الفضل في كتابه؛ فأفْضَلُهم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من فضَّله اللّه في كتابه، وهو وصيّه؛ لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن ليختار غير الذي اختاره اللّه، فهلمّوا فلننظر في كتاب اللّه مَنْ أهل صفوته، وأهل خيرته؟ فإن اللّه تبارك وتعالى يقول: ?وَربكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَة?[القصص: 68].
وقال: ?وَالسَّابِقُوْنَ السَّابِقُوْنَ أوْلئِكَ المُقَربوْنَ?[الواقعة:10 -11]. وقال: ?وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُوْنَ مِنْ المُهَاجِرينَ وَالأنْصَارِ? [التوبة:100]. وقال: ?لاَ يَسْتَوِيْ مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أوْلئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مَنَ الذِيْنَ أنْفَقُوْا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوْا? [الحديد: 10]. وقال: ?وَالَّذِيْنَ جَاؤُا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ ربنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإِيْمَانِ?[الحشر:10].
فجعل اللّه للسابق بالإيمان والجهاد فضيلةً؛ فالفضل في السَّابقين دون الناس، وأول السَّابقين أفضل السابقين لما سبق به السَّابقين، لأن اللّه عز وجَلَّ فَضَّل السابقين على التَّابعين. وقال: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُوْ إِلَى اللَّهِ عَلَىْ بَصِيْرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيْ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِيْنَ? [يوسف: 108].(1/141)
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الدَّاعي على بصيرة. وكان أول من اتبعه علياً عليه السلام وكان الدَّاعي من بعده على بصيرة؛ لأنه أول من اتبعه، وأوْلَى أنْ يكون وصيّه.
ولا ينبغي أن يكون الداعي من بعده على بصيرة إلا من يعلم جميع ما جاء به، وهل أحد من الناس يزعم أنه يعلم علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا علي عليه السلام؟
وقال: ?إِنَّمَا يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً? [الأحزاب: 33].
ثم فرض مودتهم فقال: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِيْ القُربىْ? [الشورى: 23] يقول: أن تودوني في قرابتي.
ثم فرض لهم الخُمُس فيما غَنِم المسلمون من شيء: سهمه تعالى، وسهم رسوله دون المؤمنين، فقال: ? وَاعْلَمُوْا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ?[الأنفال: 41].
فعرفنا أن الفضل والخِيْرة لأهل هذا البيت، الذي فضَّله اللّه على جميع البيوت، لأنهم جمعوا السَّبْق والتَّطهير، فينبغي أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيرهم، لأنه خير الناس، وأفضلهم عند اللّه، وينبغي أن يكونوا قادة الناس إلى يوم القيامة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: ?أفَمَنْ يَهْدِيْ إِلَىْ الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعْ أَمَّنْ لا يَهِدِّيْ إِلا أنْ يُهْدَىْ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنْ?[يونس: 35]. وقال:? إِنَّمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ?[الرعد: 7].(1/142)
فلا ينبغي أن يكون الهادي إلا أعلمهم؛ لأن اللّه عزَّ وجل اصطفى محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم وطَهَّره وعَلَّمه، وجعله القائد المعَلِّم، ومِنْ بَعْدِه عليٌ عليه السلام على منهاجه، يحتاج إليه الناس ولا يحتاج إليهم، فإن اللّه عزوجل قد فضلهم على الخلق بالهدى والطاعة، وأعلمَ الناسَ عصمَتَهم، فلايضلون عن الحق أبداً، والدليل على ذلك ماقد بَيَّنْتُ لكم من قوله: ?قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِيْ القُربى? [الشورى: 23]. وقال: ?لاَتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوْا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كُتِبَ فِيْ قُلُوْبِهِمُ الإِيْمَانُ وَأيَّدَهُمْ بِرُوْحٍ منْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمُ وَرَضُوْا عَنْهُ أوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُوْنَ?[المجادلة: 22].
فلو كانوا ممن يَحَادَّ اللّه ورسوله، لم يفرض مودتهم.
وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا - ولن تذلوا - كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
وقال: ?وَاْعلَمُوْا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ وَاليَتَامَىْ وَالمَسَاكِيْنِ وَابْنَ السَبِيْلِ? [الأنفال: 41].
فإن قالوا: فإن اللّه قد جعل لليتامى والمساكين وابن السَّبيل، فقولوا: ألا ترون أنَّ اللّه تعالى قد فَرَض الخُمُسَ لنفسه، وفرضه من بعده لرسوله، وإنَّما صار لرسوله لفضله عند اللّه، ولو كان أحد أفضل منهم لكان أحق به منهم. فَجَرَوْا في ذلك مجرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.(1/143)
وإنما فرض اللّه لليتامى نصيبهم من الخُمُس لِيُتْمِهم، فإذا ذهب يُتْمُهُم فلا حَقَّ لهم. وإنما فرض للمساكين نصيبهم من الخمس بَدَلَ مَسْكَنَتهمْ، فإذا ذهبت عنهم المَسْكَنَةُ فلا حق لهم فيه، وإنما فرض لابن السَّبيل نصيبهم بدلا من الغُرْبة، فإذا بلغوا بلادهم فلا حق لهم فيه، وكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على كل حال في الغِنَى والفَقْر، وهو لذوي القربى على كل حال بمنزلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، لأن اللّه عز وجل جعل لهم ذلك لِمَا حَرَّم عليهم من الصَّدقة إذ لم يرضها لهم.
فكان ((علي)) صلى اللّه عليه أحق الناس بالله وبرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان إمامهم بعد نبيِّهم.(1/144)
إمامة الحسن والحسين وذريتهما عليهم السلام
وأحَقُّ الناس بالناس وأولاهم بهم الحسنُ والحسينُ؛ لأنهما ذرية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعَقِبُه.وليس للحسن فضلٌ على الحسين إلاَّ درجة الكِبَر، وكان القول من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيهما واحداً، فهما ذرية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهما أولى به من سائر الناس، وأولى الناس بعلي، لأن اللّه عز وجل يقول: ?وَأوْلُوْا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أوْلَىْ بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللَّهِ? [الأنفال: 75]. وقال: ?إِنَّ اللّه اصْطَفَىْ آدَمَ وَنُوْحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَىْ العَالَمِيْنَ ذُريةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ? [آل عمران: 33 - 34] .
وأخبر أن آل إبراهيم من الذريَّة، وقال: ?وَلَقَدْ أرْسَلْنَا نُوْحاً وَإِبْرَاهِيْمَ وَجَعَلْنَا فِيْ ذُريتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ? [الحديد: 26]. وقال: ?وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِيْ عَقِبِهِ? [الزخرف: 28]. وقال: ?وَجَعَلْنَا ذُريتَهُ هُمُ البَاقِيْنَ?[الصافات: 77].
فَذُرِّية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وذرية علي أحقُّ بهما وبما تركا، وأولى الناس من غيرهم مِنْ سائر أهل البيت، لأنه ليس لأهل البيت حق إلا ولهما مثله، ولهما ماليس لأهل البيتِ من القرابةِ والحق.
فإن قالوا: من أين علمتم أنهما ابنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟(1/145)