فقبلنا ذلك منهم، وشهدنا أن خيرة اللّه من المهاجرين المجاهدين السابقون إلى الجهاد.
ثم سألنا الفريقين: هل لله خيرة من السابقين إلى الجهاد؟
قالوا: نعم، أكثرهم عملاً في الجهاد، وأكثرهم ضرباً وطعناً وقتالاً في سبيل اللّه.
فقلنا: ما برهانكم عليه؟
قالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه?[الزلزلة: 7]، وقوله تعالى: ?وَمَا تُقَدِّمُوْا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوْهُ عِنْدَاللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوْا اللّه إِنَّ اللّه غَفُوْرٌ رَحِيْم? [المزمل: 20].
فقبلنا منهم، وشهدنا أن خيرته من السابقين إلى الجهاد أكثرهم عملاً في الجهاد، وأبذلهم لمهجته لله، وأكثرهم قتالا لعدوه.
ثم سألنا الفريقين عن هذين الرجلين الذين اختلفت فيهما الأمة - علي بن أبي طالب، وأبي بكر بن أبي قحافة - أيهما كان أكثر عملا في الجهاد في سبيل اللّه، وأكثر ضرباً وطعناً وصبراً وقتالا، ومَنَعَةً، ويخاف منه من خالف الحق؟
فاجتمع الفريقان على أن علي بن أبي طالب أكثرهم عملا في الجهاد في سبيل اللّه.
فلما اجتمع على ذلك الفريقان قبلنا منهم، وشهدنا على أن عَليَّ بن أبي طالب خيرٌ من أبي بكر، بما دل عليه الكتاب والسنة - فيما اجتمعوا عليه - من فضله في كتاب اللّه الذي لا خلاف فيه.
فَدَلَّ ما أجمعت عليه الأمة على أن خيرة اللّه المتقون، وأن خيرة اللّه سبحانه وتعالى من المتقين المجاهدون في سبيل اللّه، وأن خيرة اللّه من المجاهدين السابقون إلى الجهاد، وأن خيرة اللّه من السابقين أكثرهم عملا في الجهاد.
واجتمعت الأمة على أن خيرة اللّه من السابقين إلى الجهاد البدريون، وأن خيرة البدريين المجاهدين هذان الرجلان اللذان اختلفت فيهما الأمة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة.(1/131)


فلم يَزَل الفريقان يُصَدِّق بعضهم بعضاً ويدل بعضهم على بعض، حتى دلوا على خِيْرة هذه الأمة بعد نبيها صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم بما اجتمعت عليه الأمة من كتاب اللّه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم.
ثم سألنا الفريقين حيث اجتمعوا على أن خيرة اللّه هم المتقون - فسألناهم - من هم؟
فقالوا: هم الخاشئون.
فقلنا: ما برهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?وَ أُزْلِفَتِ الجْنَّةُ لِلْمُتَّقِيْنَ غَيْرَ بَعِيْدٍ هَذَا مَا تُوْعَدُوْنَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيْظ مَنْ خَشِيَ الْرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيْب?[ق:31 - 33]. وقوله: ?وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِيْنَ الَّذِيْنَ يَخْشَونَ ربهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُوْنَ? [الأنبياء: 48 - 49].
فقبلنا منهم، وشهدنا أن المتقين هم الخاشئون.
ثم سألنا الفريقين عن الخاشئين؟
فقالوا: العلماء.
فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَىْ اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ غَفُوْرٌ? [فاطر: 28].
فقبلنا منهم، وشهدنا أن الخاشئين هم العلماء.
ثم سألنا الفريقين عن أعلم الناس من هو؟
فقالوا: أعمل الناس بالعدل.
فقلنا: ما برهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَقْتُلُوْا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ? [المائدة: 95]، فجعل الحكومة لأهل العدل وأهل العلم.
ثم سألنا الفريقين عن أعمل الناس بالعدل من هو؟
فقالوا: أدل الناس على العدل.
ثم سألناهم عن أدل الناس على العدل من هو؟
قالوا: أهدى الناس إلى الحق، وأحق الناس أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً.
فقلنا: ما برهانكم عليه؟(1/132)


قالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?أَفَمَنْ يَهْدِيْ إِلَىْ الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّيْ إِلاَّ أَنْ يُهْدَىْ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ? [يونس: 35].
فَدَلَّ ما اجمعت عليه الأمة من كتاب اللّه الذي لا اختلاف فيه على أن علي بن أبي طالب صلوات اللّه وسلامه عليه خير هذه الأمة، وأنه أتقى الأمة، وأنه إذا صار أتقى الأمة صار أخشاها، لأنه صار أعلم الأمة، وإذا صار أعلم الأمة، صار أدَلَّ الأمة على العدل، وإذا صار أدل الأمة على العدل، صار أهدى الأمة إلى الحق، وصار أحق الأمَّة أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً، وأن يكون حاكماً ولا يكون محكوماً عليه، لأن اللّه تبارك وتعالى قال في كتابه: ?أَفَمَنْ يَهْدِيْ إِلَىْ الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّيْ إِلاَّ أَنْ يُهْدَىْ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ? [يونس: 35].
هذا ما أجمعت عليه الأمة بعد نبيها صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم، أجمعت على أن نبيها صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم مضى وخلف فينا كتاب اللّه تعالى الذي أُنْزِل عليه، وأمرنا أن نعمل بما فيه، وبَلَّغنا ذلك، فقال في الكتاب: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89]، وقال: ?وَشِفَاءٌ لِمَا فِيْ الصُّدُوْرِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِيْنَ? [يونس: 57].
واجتمعت الأمة على أنه لابد لهم من والٍ يجمعهم ويدبر أمورهم.
واجتمعت على أنه لا يحل لهم أن يعملوا عملا، أو يقولوا: اقرأ علينا هذا القرآن - فيمضوا لما يأمرهم به القرآن الذي يعرفه صغيرهم وكبيرهم - حتى إذا بلغ:?وَربكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَاْنَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ?[القصص:68]، فيقول: اثبتها واعزلها.
فإنا نجد اللّه تبارك وتعالى خلق الخلق، فاختار خيرةً من الخلق ما ليس لنا أن نختار غيرهم.(1/133)


ثم يقولون إقرأ حتى ننظر مَنْ خِيرَتُهُ من خلقه الذين اختارهم، فيقرأ حتى إذا بلغ: ?يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِناَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّه عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ? [الحجرات: 13]، فيقولون: قد فَسَّرَتْ لنا هذه الآيةُ وقد دَلَّتْنَا على أن خيرة اللّه من خلقه المتقون.
ثم يقول: اقرأ حتى نعلم مَنِ المتقون. فيقرأ حتى إذا بلغ: ?وَ أُزْلِفَتِ الجْنَّةُ لِلْمُتَّقِيْنَ غَيْرَ بَعِيْدٍ هَذَا مَا تُوْعَدُوْنَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيْظٍ مَنْ خَشِيَ الْرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيْب? [ق: 31 - 33]، فيقولون: قد دلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشئون.
ثم يقولون : اقرأ حتى إذا بلغ: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?[فاطر: 28]، فيقولون: قد دلتنا هذه الآية على أن الخاشئين هم العلماء.
ثم قالوا: اقرأ حتى نعلم العلماء خيرٌ وأفضل أم غيرهم؟ فيقرأ، حتى إذا بلغ: ?هَلْ يَسْتَوِيْ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوْا الأَلْبَابَ? [الزمر:9] فيقولون: قد دَلَّتَناَ هذه الآية على أن العلماء أفضل وخير من غيرهم.
ثم يقولون: اقرأ، حتى إذا بلغ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قِيْلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوْا فِي الْمَجَاْلِسِ فَافْسَحُوْا يَفْسَحِ اللّه لَكُمْ وَإِذَا قِيْلَ انْشُزُوْا فَانْشُزُوْا يَرْفَعِ اللّه الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرٌ? [المجادلة:11] فيقولون: قد فَسَّرَتْ لنا هذه الآية ودَلَّتناَ على أن اللّه تبارك وتعالى قد اختار أهل العلم وفضلهم ورفعهم فوق الذين آمنوا درجات.(1/134)


وأجمعت الأمة على أن الفقهاء العلماء من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأخذون عنهم أبواب صلواتهم، وزكواتهم، وطلاقهم، وسننهم، وفرائضهم، ومشاعرهم - أربعة : علي بن أبي طالب، وعبدالله بن العباس، وعبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت الأنصاري ، وقالت طائفة: وعمر بن الخطاب.
فسألنا الأمة: من أولى الفقهاء العلماء بالتقدم بالصلوة إذا حضروا، فاجتمعوا على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((يؤمكم أقرؤكم لكتاب اللّه عز وجل)) . فاجتمعوا على أن الأربعة أولى بالتقدم من عمر.
ثم سألنا الأمة: أي الأربعة كان أقرأ لكتاب اللّه وأفقههم في دين اللّه؟
فاختلفوا فيهم، فأوقفناهم حتى نعلم.
ثم سألنا الأمة: أي الأمة أولى بالإمامة؟
فاجتمعت الأمة على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((الأئمة من قريش)).
فسقط اثنان من الأربعة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت الأنصاري، إذ هما لم يصلحا للإمامة؛ لأنهما ليسا من قريش، وبقي علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، وعبد الله بن عباس مسلمين فقيهين عالمين قرشيين.
فسألنا الأمة: إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين أيهما أولى بالإمامة؟
فاجتمعت الأمة على: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((إذا كان فقيهين عالمين فأكبرهما وأقدمهما في الهجرة)). فسقط عبد الله بن عباس، وحَصَل علي بن أبي طالب صلوات اللّه وسلامه عليه، وصار أحق الناس بالإمامة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وهذا ما اجمعت عليه الأمة بعد نبيها صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ثم اجتمعوا على أن لِله خيره من خلقه اختارهم واصطفاهم، وجعلهم أدلاء على الفرائض والحكم على خلقه، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟(1/135)

27 / 55
ع
En
A+
A-