بيان الخلاف في تعين الخليفة وكيفية الحكم في ذلك
أما بعد.... فإنا قوم لم ندرك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفوا فنعلم كيف كان الخلاف بينهم، ونعلم أي الفريقين أولى بالحق والصدق؛ فنتابعهم ونتولاهم ونكون معهم، كما قال اللّه تعالى في كتابه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اْتَّقُوْا اللّه وَكُوْنُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ?[التوبة: 119]، ونعلم أي الفريقين أولى بالكذب والضلال، فَنَتَجَنَّبهم كما أمر اللّه تعالى، فهذا غائب عنا ، وكنا كما قال اللّه تعالى: ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُوْنِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُوْنَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبَصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ?[النحل: 181]، حتى إذا أدركنا العقل طلبنا معرفة الدين من أهل الحق والصدق ، فوجدنا الناس مختلفين يتبرأ بعضهم من بعض، وقد يجمعهم في حال اختلافهم فريقان.
فريق قالوا: إن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مضى ولم يَسْتَخْلِفْ أحداً بعينه، وإنه جعل ذلك إلينا معاشر المسلمين، نَخْتَارُ لأنفسنا رجلا فنستعمله علينا، فاخترنا أبا بكر.
وفرق قالوا: إن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم استخلف علياً فجعله خليفة وإماما نَسْتَبِيْنُ به بَعَدَهُ. فصارت كل فرقة منهم مُدَّعِيَةً تدعي الحق.
فلما رأينا ذلك أوقفنا الفريقين جميعاً، حتى نستبين ذلك، ونعرف المُحِقَّ من المبطل.
ثم سألنا الفريقين جميعاً: كيف كان النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم يقضي بين الخصمين والفريقين إذا اجتمعوا إليه؟
فاجتمع الفريقان جميعاً على أن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم لم يكن يقضي بين الفريقين إذا اجتمعوا إلاَّ بِالبَيِّنَةِ العُدُول من غير أهل الدعوى، ممن لا يَجُرُّ إلى نفسه.(1/126)
فَقَبِلْنَا منهم حين اجتمعوا عليه، وشهدنا أنه الحق، وأن من خالف حكم النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم فقد جَارَ وَظَلَم.(1/127)
بيان دعوى ودليل كل فريق
ثم سألنا الذين زعموا أن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم استخلف علي بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه وسلامه - ومضى: هل لكم بينة عُدُولٌ من غيركم على ما ادَّعيتم فنصدقكم ونقضي لكم؟
قالوا: لا نجد بينةً عدولاً من غيرنا .
ثم سألنا الذين زعموا أن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم مضى ولم يستخلف أحداً - وأنه جعل ذلك إليهم ليختاروا لأنفسهم، فاختاروا أبا بكر-: هل لكم بَيِّنة عُدُولٌ من غيركم فَنُصَدِّقَكُم ونقضي لكم؟
قالوا: لا نجد بينة عدولاً من غيرنا.
فَلَمَّا لم يجد الفريقان البينةَ العدول من غيرهم على ما ادعوا أوقفناهم حتى نعلم المُحِقَّ من المُبْطِل.(1/128)
ضرورة نصب والٍ على الناس متميز بصفات حسنة
ثم سألنا الفريقين جميعاً هل للناس بُدّ من والٍ يصلي بهم، ويقيم أعيادهم، ويَجْبِي زكاتهم، ويعطيها فقراءهم، ويأخذ غنائمهم ويقسمها، ويقضي بينهم، ويأخذ لضعيفهم من قويهم، ويقيم حدودهم؟ فاجتمع الفريقان على أنه لابد من والٍ يقوم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسُّنّة. فقبلنا منهم، وشهدنا أنه الحق، وأنه لابد للناس من والٍ يقوم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسُّنن.
ثم سألنا الفريقين هل للناس أن يتبرعوا بتولية رجل يجعلونه إماماً وخليفة عليهم قَبْلَ أن ينظروا في كتاب اللّه عز وجل والسُّنَّة؟ فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وبفضله يولونه عليهم، لفضله عليهم في الكتاب والسنة. فاجتمع الفريقان على أن ليس للأمة أن يَتَبَرَّعوا بولاية رجل يختارونه ويجعلونه عليهم والياً، يحكم بينهم، دون أن ينظروا في كتاب اللّه عز وجل والسُّنة، فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفضله ولَّوه عليهم، وإن لم يجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفضله كانت لهم الشورى بعد ذلك بما وافق الكتاب والسنة. فلما أجمعوا على ذلك قَبِلْنَا منهم، وشهدنا أنه ليس للأمة أن يتبرعوا بتولية والٍ على أن يجعلوه الخليفة والإمام دون أن ينظروا في الكتاب والسنة.
ثم سألنا الفريقين عن الإسلام الذي أمر اللّه تعالى به خَلْقَه، ماهو؟
فاجتمعوا على أن الإسلام: شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، والإقرار بما جاء به نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وصلاة الخَمْس، وصوم شهر رمضان، والحج إلى بيت اللّه الحرام من استطاع إليه سبيلا، والعمل بهذا القرآن تحليل حلاله وتحريم حرامه والعمل بما فيه.
فقبلنا منهم حيث اجتمعوا عليه، وشهدنا أنه الحق.(1/129)
ثم سألنا الفريقين جميعاً: هل لِلَّه خِيرةٌ مِنْ خَلْقِهِ اختارهم واصطفاهم؟ فاجتمع الفريقان على أن لِلَّه تعالى خِيرةً من خلقه اختارهم واصطفاهم.
فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ? وَ ربكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَاكَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ? [القصص:68].
فقبلنا منهم حيث اجتمعوا على ذلك، وشهدنا بأن لِلَّه تعالى خِيْرة من خَلْقَه.
ثم سألناهم: مَنْ خيرة اللّه سبحانه من خلقه؟
فقالوا: المتَّقُون.
فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِناَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّه عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ? [الحجرات: 13].
فقبلنا حيث اجتمعوا، وشهدنا أنه الحق، وأن خيرة اللّه من خلقه المتقون.
ثم سألنا الفريقين هل لله خيرة من المتقين؟
فقالوا: نعم.
فقلنا: من هم؟
فقالوا: المجاهدون في سبيل اللّه.
فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?وَفَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ أَجْراً عَظِيْماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُوْراً رَحِيْماً? [ النساء: 95 - 96].
فقبلنا منهم، وشهدنا أن خِيرَةَ اللّه من المتقين المجاهدون في سبيل اللّه.
ثم سألنا الفريقين: هل لله خيرة من المجاهدين في سبيل اللّه؟
قالوا: نعم.
فقلنا: من هم؟
فقالوا: السابقون - من المهاجرين - إلى الجهاد.
فقلنا: مابرهانكم عليه؟
فقالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ?لاَ يَسْتَوِيْ مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِيْنَ أَنْفَقُوْا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوْا وَكُلاً وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَاْ تَعْمَلُوْنَ خَبِيْر? [الحديد: 10].(1/130)