وقال اللّه عز وجل في الكتاب - حين فرض الفرائض وأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقسمة -: ?مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ الْقُربى وَاليَتَامَىْ وَالْمَسَاكِيْنِ وَابْنِ السَّبِيْلِ كَيْ لاَ تَكُوْنَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا ءَآتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوْا وَاتَّقُوْا اللَّهَ إِنَّ اللّه شَدِيْدُ العِقَابِ?[الحشر: 7]. ثم قال: ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرينَ الَّذِيْنَ أُخْرِجُوْا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُوْنَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُوْنَ اللّه وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُوْنَ?[الحشر: 8]. ثم قال: ?وَالَّذِيْنَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّوْنَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُوْنَ فِيْ صُدُوْرِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوْتُوْا وَيُؤْثِرُوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَنْ يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الُمُفْلِحُوْنَ?[الحشر: 9]، فكانت هذه الأنصار. فجعل اللّه تبارك وتعالى النبوة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولقرابته الفَضْلَ على الناس والمهاجرين والأنصار، ثم قال: ?وَالَّذِيْنَ جَاؤُوْا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ ربنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإيِمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِيْ قُلُوْبِنَا غِلاً لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا ربنَا إِنَّكَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ?[الحشر:10]، وقال: ?وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُوْنَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِيْنَ اتَّبَعُوْهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوْا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ(1/116)
العَظِيْمُ?[التوبة: 100] ، فليس يكون أحد متابعاً لهم بإحسان حتى يعرف فضل مَنْ فضله اللّه عليه، وأنه إنما كان لهم مثل تابع لهم، فليس لأحد - دَخَلَ في الإسلام - أن يُعَلمهم وهم علموا قبله، ولا أن يرى له مثل حقهم، وقد دخلوا في الإسلام طوعاً بحبوة من اللّه عز وجل احتباهم، فلهم عليه أثرة وليس لأبناء المهاجرين من قريش تفاخر بفضل آبائهم على الناس، ولا تعترف لذرية نبيهم بالفضل عليهم.
فإن قلت: قد اختلفوا. فقد صدقت، وإنما أنبأكم اللّه فقال: ?وَمَا اخْتَلَفَ فِيْهِ - يقول في الكتاب - إِلاَّ الَّذِيْنَ أُوْتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتِ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ?[البقرة: 213]، فانظر حين اختلفوا أين كان أهل الحق؟ فإنه لا يشكل أهل الحق.
وإن بني إسرائيل حين اختلفوا سماهم اللّه أهل الكتاب، ثم لم يخرج الحق منهم بل جعله فيهم، قال اللّه عز وجل: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِيْ مِريةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبِنِيْ إِسْرَائِيْلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوْا وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يُوْقِنُوْنَ?[السجدة: 23 - 24].(1/117)
وكان مِن مَنِّ اللّه وفضله على آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن اللّه جل ثناؤه جعل له من قومه وعشيرته الأقربين قوماً هم أقربهم إليه، فأمره أن يُنْذِرهم فقال: ?وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْربيْنَ?[الشعراء: 214]. فاستجاب له أقرب الناس رحماً من: عم ، وابن عم، أخُ أب وأم، ولم يستجب له آخرون من مثل منزلتهم في الرحم، فقال اللّه عز وجل: ?النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُهَاجِرينَ?[الأحزاب: 6]. فلم يجعل اللّه ولاية أهل الأرحام إلا على الإيمان والهجرة، قال اللّه عز وجل في آية أخرى في المهاجرين: ?وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يُهَاجِرُوْا مَالَكُمْ مِنْ وِلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوْا?[الأنفال: 72]، وقال: ?إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوْا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوْفاً كَانَ ذَلِكَ فِيْ الْكِتَابِ مَسْطُوْراً?[الأحزاب: 6].
وكان مِن مَنِّ اللّه تبارك اسمه ونعمته على آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن كان منهم أول من استجاب للنبي صلى اللَّه عليه وصَدَّقَهُ وهاجر معه وجاهد على أمره، فكانت له الولاية في الرحم والولاية في الدين، ولم يأخذ عليه أحد بفضل ولايته في الدين، وأخذ على الناس بفضل ولايته في الرحم، مع الولاية في الذين. في كتاب اللّه جل ثناؤه.(1/118)
فمن قال: إن أولئك ذهبوا وإنما أنتم أبناؤهم فليس لكم فضل بآبائكم. فانظر في آي القرآن، أرأيت حين بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم، وسمى بني إسرائيل أهم الكتاب في كثير من آي القرآن فقال تعالى: ? قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً?[آل عمران: 64]، وقال: ?وَقُلْ لِلَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّيْنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوْا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ?[آل عمران: 20]، وقال: ?وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ?[آل عمران: 19] أفرأيت بني إسرائيل حين سماهم اللّه تعالى أهل الكتاب على لسان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد اختلف أهل الكتاب، والذين أوتوا الكتاب هم الذين اتبعوا موسى صلى اللّه عليه وأبناؤهم، فإن عرفت أنهم أبناؤهم، فإن عرفت أنهم أبناؤهم فما منعك أن تعرف من أنه قد ثبت لأل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم هم أهل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل الكتاب؟ كما ثبت ذلك لبني إسرائيل قال اللّه: ?وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللَّهِ?[الأنفال: 75] فقد عرفت هذه الأمة أنَّا أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذريته لأن اللّه جل ثناؤه لم يفرق بين النبوة والكتاب أن جعله في أحد من ذرية إبراهيم، قال اللّه جل ثناؤه لإبراهيم: ?وَجَعَلْنَا فِيْ ذُريتِهِ النُّبُوَّةٍ وَالْكِتَابِ?[العنكبوت: 27]، فكيف يفرقون بين من لم يفرق اللّه بينه فقال: ?فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيْماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ(1/119)
صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيْراً?[النساء: 54 - 55]، فليس أحد أولى بإبراهيم من محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أولى بمحمد منا، قال اللّه جل ثناؤه: ?مِلَّةَ أَبِيْكُمْ إِبْرَاهِيْمَ?[الحج: 78]، وليس كل هذه الأمة بني إبراهيم، قال اللّه عز وجل لبني إسرائيل: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِيْنَ?[الجاثية: 16]، وقال موسى لقومه: ?اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكاً وَآتَاكُمْ مَالَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِيْنَ?[المائدة: 20] في زمنهم الذي كانوا فيه، وقال محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: ?هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِيْ?[الأنبياء: 24] فقد ذكر اللّه عز وجل أمرهم وأمرنا في الكتاب.
فإن قلت: إن اللّه جعل الكتاب الذي بعث به محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم رحمة للناس وهدى. فبذلك يريد جهال هذه الأمة أن يؤخرونا عنه، فإنه قد قال في التوراة والإنجيل مثلما قال في القرآن، قال: يامحمد ?نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيْلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلْنَّاس?[آل عمران: 3 - 4].
وقال: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُوْنَ الأُوْلَى بَصَائِرَ لِلْنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ?[القصص: 43].
وقال: ?وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوْسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً?[هود: 17].(1/120)