وقد بين اللّه لكم ما أمر به نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما أمركم أن تعتصموا به بعده، فقال عز وجل: ?فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِيْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ?[الزخرف: 43]، وقال: ?وَالَّذِيْنَ يُمَسِّكُوْنَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوْا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيْعُ أَجْرَ المُصْلِحِيْنَ?[الأعراف: 170].
وقال: ?اُدْعُ إِلَى سَبِيْلِ ربكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ?[النمل: 125].
وقال: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِيْ مِنْ الْمُسْلِمِيْنَ?[فصلت: 33].
وقال: ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ?[هود: 122].
وقال: ?إِنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا ربنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوْا وَلاَ تَحْزَنُوْا وَأَبْشِرُوْا بِالْجَنَّةِ الَّتِيْ كُنْتُمْ تُوْعَدُوْنَ?[فصلت: 30].
ثم قال: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوْ اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيْراً?[الأحزاب: 21] فهذا عهد اللّه إليكم، وقال: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُوْلٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِيْ اللَّهُ الشَّاكِرينَ?[آل عمران: 144].(1/111)


فواللّه لئن ترك الناس أمر اللّه، فالله لا يدع أمره، وقال تبارك وتعالى: ?أَفَلَمْ يَسِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَيَنْظُرُوْا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِيْنَ مَنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَأَنَّ الكَافِرينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ?[محمد: 10 - 11].
ثم قال: ?إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيْدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيْزٍ?[فاطر:16 - 17]، وقال: ?وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آياَتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِيْنَ?[النور: 34].
فانظروا في ذكر من كان قبلكم، وما جاء من مثلهم، هل يستقيم لأحد - اتبع الكتاب من اليهود والنصارى من قِبَل العرب والعجم - أن يقول نحن صفوة اللّه دون آل عمران؟ أو يقول نحن ورثنا الكتاب دونهم، ونحن أعلم بالكتاب منهم؟ فمن قال ذلك منهم فإن القرآن يكذبه، قال اللّه جل ثناؤه: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِيْ الأَلْبَابِ?[غافر: 53 - 54]، وقال: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوْسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِيْ مِريةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِيْ إِسْرَائِيْلَ وَجَعَلْنَا مَنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا?[السجدة: 23-24]، هذا ذكر بني إسرائيل في كتابهم.
وبين لكم أنه اصطفى آل عمران، وأنه أورثهم الكتاب من بعد موسى، وأنه جعل منهم أئمة يهدون بأمره، ثم بين لكم في كتابه أنه اصطفى آل إبراهيم كما اصطفى آل عمران، ثم قال: ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا?[فاطر: 32].(1/112)


فإن زعم من خالف آل محمد صلى اللّه عليه من أهل هذه القبلة أنهم هم الذين أورثوا الكتاب، وأنهم هم أهل الصَّفوة، وإنما ذكر اللّه عز وجل آل إبراهيم دون آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، [فهم أولى بآل إبراهيم] أم آل محمد أولى بآل إبراهيم ؟ وقال جل ثناؤه: ?فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيْماً?[النساء: 54]، ثم ذكر ذلك في آي من الكتاب ستمر بهن وتعرف إن شاء اللّه أن لآل محمد صلى اللّه عليه منزلة في الصفوة والحبوة ليست لغيرهم، مع أنا نعرف أن اللّه عز وجل قد جعل كُلَّ من تولى قوماً في الدين معهم، وإن لم تكن النسبة واحدة، فقال: ?يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَتَتَّخِذُوْا اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِيْنَ?[المائدة: 51]، ثم قال مثل ذلك في هذه الأمة: ?وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَهَاجَرُوْا وَجَاهَدُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللّه وَالَّذِيْنَ آوَوْا وَنَصَرُوْا أُوْلَئِكَ هُمْ المُؤْمِنُوْنَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَريمٌ?[الأنفال: 74]، ثم قال: ?وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوْا وَجَاهَدُوْا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِيْ كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٍ?[الأنفال: 75]، صدق اللّه تبارك وتعالى وبَلَّغت رسله صلى اللّه عليه أجمعين، فبنوا إسرائيل بعضهم أولى ببعض في الأرحام، وبنوا إسماعيل بعضهم أولى ببعض في الرحم، إذا كانت لهم مع الرحم الولاية في الدين، فنحن أولى الناس بمحمد وإبراهيم صلى اللّه عليهما في الرحم، وأولاهم في التصديق به في الدين، جعل اللّه عز وجل لذرية محمد وأهل بيته ومن هاجر معهم من قريش الفضل على غيرهم من(1/113)


المسلمين وجعلـ[ـه] لهم في خواص الكتاب، قال اللّه عز وجل: ?يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا ارْكَعُوْا وَاسْجُدُوْا وَاعْبُدُوْا ربكُمْ وَافْعَلُوْا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ وَجَاهِدُوْا فِيْ اللّه حَقَّ جِهَادِهِ? يقول: في سبيل اللّه حق جهاده، ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيْكُمْ إِبْرَاهِيْمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ قَبْلُ?[الحج: 77]، وفي هذا إنما قال اللّه تبارك وتعالى: ?مِنْ قَبْلُ?. في دعوة إبراهيم وإسماعيل، ذلك قوله عز وجل: ?وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيْمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيْلُ ربنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ ربنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُريتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ?[البقرة: 127 - 128] فهذا من دعاء إبراهيم وإسماعيل صلى اللّه عليهما من قَبْلِ محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم سماه في الكتاب الذي بعث به محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: ?وَلِتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْداً?[البقرة: 143]، ثم قال إبراهيم وإسماعيل: ?ربنَا وَابْعَثْ فِيْهِمْ رَسُوْلاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِمْ?[البقرة: 129]، فهم ذرية إبراهيم وإسماعيل وهم دعوتهما قبل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.(1/114)


ولم تكن الدعوة إلا لذرية إسماعيل، قال اللّه عز وجل في قول إبراهيم: ?ربنَا إِنِّيْ أَسْكَنْتُ مِنْ ذُريتِيْ بِوَادٍ غَيْرَ ذِيْ زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ ربنَا لِيُقِيْمُوْا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِيْ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُوْنَ?[إبراهيم: 37]، فهم الذين لزموا الحرم من ذرية إبراهيم حتى انتهت إليهم دعوته، فبعث اللّه تبارك وتعالى منهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وجعل منهم أمة مسلمة، قال اللّه جل ثناؤه: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاِس وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْداً?[البقرة: 143]. والوسط: العدل. قال تعالى: ?قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُوْنَ?[القلم: 28]، وقال تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُوْلٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ?[إبراهيم: 4]، وقال: ?وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْا هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُوْنَ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٍ?[التوبة: 115].
ثم بعث اللّه جل ثناؤه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم بلسان قومه وجعله رسولا إلى من ليس على لسان قومه، قال اللّه تبارك وتعالى: ?قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّيْ رَسُوْلُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيْعاً?[الأعراف: 158]. وكانت الأمة المسلمة - في دعوة إبراهيم وإسماعيل - من اتبع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من قريش وهاجر معه وتعلموا الكتاب والحكمة وبلغوا القرآن منه بلسانه وألسنتهم.
وكان لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أهلا وذرية دون قومه، فآمنوا به وصَدَّقوه واتبعوه، وذكر اللّه الأنصار ينصرهم واتباعهم، وجعل باب الهجرة والإيمان إليهم وإلى بلدهم.(1/115)

23 / 55
ع
En
A+
A-