وقال في صاحب موسى صلى اللّه عليه حين أقام الجدار: ?فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيْمَيْنِ فِيْ الْمَدِيْنَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوْهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ ربكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ ربكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَالَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً?[الكهف: 82]، فكان تأويل ذلك مما لم يعلم موسى، حَفِظَ اللّه الغلامين بصلاح أبيهما، فمن أحق أن يرجوا الحفظ من اللّه بصلاح من مضى من آبائه من ذرية نبيكم؟!
فنحن والله ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته، مُتَّبِعُوْنَ له، معتصمون بالكتاب الذي جاء به، نُحَرِّمُ حَرَامَهُ ونُحِلُّ حلاله، ونُصَدِّقُ به، ونعلم منه أفضل مما يعلم الناس من تلاوته، ونؤمن من تأويله بما يعلم الناس منه وما يجهلون، لم يَدَّع الناس عندنا مظلمة من أموالهم التي قتل بعضهم بعضاً عليها، ولم نجاهدهم إلا على أن يضعوها مواضعها، ويأخذوها بحقها، ويعطوها أهلها الذين سماهم اللّه لهم؛ فعلى ذلك قَاتَلْنَا مَنْ قَاتَلْنَا منهم، واحتججنا عليهم بأنهم لايتبعونا إذا دعوناهم، ولا يهتدون بغيرنا إذا تركناهم، ولا يزدادون في ذات بينهم إلا بعداً وتفرقاً.(1/106)
القدوة من أهل البيت عليهم السلام
فإن قلت: إن من آل محمد من ينبغي للناس أن يتفرقوا عنه، فإن فيهم بعض ما يكره لهم.
فلعمري إن فيهم لما في الناس من الفضل والذنوب، ولكن ليس ذلك في جُلِّ القوم إنما هو في خَوَاصِّهم، فمن ظهر عليه عيبه عُوقب به من أتاه، وإن سُتِرَ عليه عيبه فأمره إلى اللّه، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له، ما لم يَدْعُ الناس إلى ضلالة ولم يضل بهم عن حق، ولم يتأول شيئاً يعلمه في الإسلام بدعةً أو سنةَ باطلٍ يَتَّبِعه الناس عليها، ومن اتبعه عليها ضل هو ومن اتبعه كبقية من عمل بذلك فَضَلَّ وأَضَلَّ.
قال اللّه تبارك وتعالى: ?لِيَحْمِلُوْا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِيْنَ يُضِلُّوْنَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُوْنَ?[النحل: 25] .
وإني إنما قلت لك هذا كي لا تزهد في حق آل محمد صلى اللّه عليه وسلم إن ترى في بعضهم عيوباً، ولكن أحق من وجب على الناس الإقبال إليه من آل محمد صلى اللّه عليه من ائتمنه المسلمون على نفسه وغيبه، ثم رضوا فهمه وعلمه بكتاب اللّه وتَبْيِيْن الحق فيه، وسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهدى اللّه عز وجل به الناس إلى ذلك، وأهداهم الموثوق في حديثه وفهمه وفضله، ووصفه الحَّق بما يُعَرِّف المسلمين من معالم دينهم، ثم الاستقامة لهم عليه، ليس له أن يجوز بهم عن الحق وليس لهم أن يبتغوا غيره ما ستقام لهم، ولم يكن آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والحمدلله - على حال منذ فارقهم نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلا وفيهم رضاً عند من عرفه من المسلمين، في أنواع الخير التي يَفْضُل بها الناس، عَرَفَ ذلكَ مِنْ حقهم مَنْ عَرَفَه وأنكره من أنكره.(1/107)
عوامل التفضيل
ولعمري ماكُل قريش - وإن كانوا قوم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - أهل فضل، فقد قال اللّه للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ?وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ?[الأنعام: 66]، فإن منهم لأَوَّل من كَذَّبه، وإن منهم لأول من صَدَّقَه، فما جعل اللّه حقهم على الناس واحداً، حَقُّ من صدقه كحق من كذبه، فما عظمت نعمة اللّه على أحد من خلقه إلا زاد حق اللّه عليه تعظيماً.
ومِنْ أداء حق اللّه وشكر نعمته العمل بطاعته والاجتناب لمعاصيه؛ فمن أَخَذَ يُفَضِّل نَفْسَهُ على الناس بغير نعمة من اللّه سيقت إليه أوسلفت، فهو حين يعرف الناس أنه عاص لله لاحَقَّ له ولا نعمة، إنما الحق لمن شكر النعمة وعمل بالطَّاعة التي إنما كان قريش ابتليت بها ولو آمن الناس وابتلي الناس بهم وسلطانهم عليهم وملكتهم إياهم وانتحالهم هذا الأمر دون الناس والقيام به عليهم.
ما كل من قرأ القرآن من قريش يعلمه ولا يعدل فيه، لقد قال جل ثناؤه لبني إسرائيل: ?وَمِنْهُمْ أُمِّيُّوْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ الكِتَابَ إِلاَ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَظُنُّوْنَ?[البقرة: 78]، ثم قال: ?لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوْءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدُ لَهُ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيْراً?[النساء: 123].
وقال: ?كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِيْ قُلُوْبِ الْمُجْرِمِيْنَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِيْنَ?[الحجر: 12 - 13]، فليس يكون الإيمان به الكلام والعمل بغيره، ولقد قال اللّه عز وجل: ?وَيَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُوْلِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَريقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أَوْلَئِكَ بَالْمُؤْمِنِيْنَ?[النور: 47] .(1/108)
وكان مما جاء به من سنة الأولين أن قال: ?مَثَلُ الَّذِيْنَ حُمِّلُوْا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوْهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِيْنَ كَذَّبُوْا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِيْ القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ?[الجمعة: 5] وما يحملها إلا القائم بها . قال اللّه عز وجل: ?يَاأَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيْمُوْا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيْلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ ربكُمْ?[المائدة: 68].
وقال لهذه الأمة: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِيْ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِيْ الأَرْضَ لِيُفْسِدَ فِيْهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِيْ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوْفٌ بِالعِبَادِ?[البقرة:204 - 207]. وإنما الفساد في الأرض: العمل بمعصية اللّه؛ قالت الملائكة: ?أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ?[البقرة: 30] وإنما هلاك الحَرْثِ هلاكُ الدين، قال اللّه عز وجل: ?مَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِيْ حَرْثِهِ?[الشورى: 20]. وحرث الآخرة: العمل الذي يدين اللّه به عباده من الخير؛ وإنما هلاك النَّسْلِ: أمْرُ نَسْلِ الناس أن يحملوا غير دين الحق. قال اللّه جل ثناؤه: ?وَبَدأَ خَلْقَ الإِنْسَانَ مِنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مَنْ مَاءٍ مَهِيْنٍ?[السجدة: 7 - 8].(1/109)
وقال عز وجل: ?وَكَذَلِكَ نَفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِيْنَ سَبِيْلُ المُجْرِمِيْنَ?[الأنعام: 55].
وقال: ?وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَمَ وَسَاءَتْ مَصِيْراً?[النساء: 155].
فهما سبيلان كما قال اللّه عز وجل: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِيْ مُسْتَقِيْماً فَاتَّبِعُوْهُ وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ?[الأنعام 153]. ثم قال: ?ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ?[الأنعام: 153]، ?أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِيْنَ كَالْمُجْرِمِيْنَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ أَفَلاَ تَذَكَّرُوْنَ?[القلم: 35 - 36].
وقال: ?أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوْا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُوْنَ? [الجاثية: 21].
وقال: ?أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُوْنَ?[السجدة: 18].
وقال: ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِيْنَ فِيْ الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ?[ص: 28].
وقال: ?وَمَا يَسْتَوِيْ الأَعْمَى وَالْبَصِيْرُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ وَلاَ المُسِيءُ قَلِيْلاً مَا تَتَذَكَّرُوْنَ?[غافر: 58].
وقال: ?الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوْا أَنْ يَقُوْلُوْا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُوْنَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِيْنَ أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُوْنَا سَاءَ مَا يَحْكُمُوْنَ?[العنكبوت: 1- 4].(1/110)