ثم أكرم اللّه إبراهيم إذا جعل بقية الحق في أهله فقال: ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ لأَبِيْهِ وَقَوْمِهِ إِنَنِيْ بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُوْنَ إِلاَّ الَّذِيْ فَطَرَنِيْ فَإِنَّهُ سَيَهْدِيْنِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِيْ عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ?[الزخرف: 26 - 28]، والعقبُ: الذرية، فقال: ?لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ?[الزخرف: 28]، فلم يرجع أحد من الأمم إلى الحق بعد إبراهيم صلى اللّه عليه - حين ضلوا بعد أنبيائهم - إلا بذرية إبراهيم، [فـ]هي كلمة الحق التي جعلها اللّه باقية في عقبة.
وقال لنبيكم: ?إِذْ جَعَلَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا فِيْ قُلُوْبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللّه سَكِيْنَتَةُ عَلَى رَسُوْلِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوْا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْماً?[الفتح: 26] وقال: ?أَلَمْ تَرَكَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةً أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِيْ السَّمَاءِ تُؤْتِيْ أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ ربهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلْنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيْثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيْثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَالَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفَيْ الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِيْنَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ?[إبراهيم: 24 - 27]، وقال: ?ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِيْ التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِيْ الإِنْجِيْلِ?[الفتح: 29]، فقد ضرب اللّه لكم الأمثال في التوراة والإنجيل وفي كتابكم، فكانت ذرية إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.(1/96)


فأما بنو إسحاق فقد قص اللّه عليكم نبأهم لتتعظوا بذكرهم، وهما هاتان الطائفتان اللتان ذكر اللّه في الكتاب فقال: ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوْهُ وَاتَّقُوْا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ أَنْ تَقُوْلُوْا إِنَّما أُنْزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِيْنَ?[الأنعام: 155 - 156].
فأما بنو إسماعيل فهم أمِّيون لم يكن لهم كتابٌ، ولم يُبْعَثْ فيهم غيرُ محمدٍ صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبعثه اللّه على ملة إبراهيم صلى اللّه عليه ونَسَبَهُ إلى إبراهيم وجعله أولى الناس به حين بعثه ، وبينه وبين إبراهيم ما شاء اللّه من القرون، فقال: ?إَنَّ أَوْلَىْ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيْمَ لَلَّذِيْنَ اتَّبَعُوْهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِيْنَ?[آل عمران: 68]. [و]جعله اللّه تبارك وتعالى خاتم النبيين وأرسله إلى الناس كافة، فليس كل من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من بني إسماعيل، كما ليس كل من اتبع موسى وعيسى عليهما السلام من بني إسحاق صلى اللّه عليه.
وإنما وصَفْتُ لك هذا لتعرف أنه لا يستقيم لمن خالف آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم من أهل هذه القبلة أن يقول: نحن أهل صفوة اللّه - حين ذكرها في الكتاب - دون آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولابد لهم إن خالفوا آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يكونوا أهل هذه الآية - التي ذكر اللّه تعالى فيه الصفوة - دون آل محمد، أو يكون آل محمد أهلها دونهم.
فافهم ما ذكرت لك فإن اللّه تبارك وتعالى قال لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ?هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِيْ?[الأنبياء: 24].(1/97)


فواللّه إن دين اللّه لَدِيْنُه الذي بعث به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان المسلمون عليه بعد نبيهم قبل تَفَرُّقِهم، فماذا شُبّه عليكم أيها الناس؟ فواللّه إن الحلال والحلام إلى يوم القيامة، وإن الحرام لحرام إلى يوم القيامة، وإن فريضته لواحدة، وإن حدوده لواحدة، وإن أحكامه فيه لواحدة، وقد قال اللّه عز وجل: ?وَتَعَاوَنُوْا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوْا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيْدُ العِقَابِ?[المائدة: 2]، وإن معصية النبي صلى اللّه عليه ميتاً كمعصيته حياً.
قال اللّه تعالى: ?فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُوْنِ مِنَ قَبْلِكُمْ أُوْلُوْا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِيْ الأَرَضِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مَا اُتْرِفُوْا فَيْهِ وَكَانُوْا مُجْرِمِيْنَ?[هود: 116]، وما أهل بيت نبيكم بالمترفين فالله المستعان.
فانظروا من بقية أهل الحق من القرون، فإن اللّه تبارك وتعالى قال لنوح صلى اللّه عليه وسلم: ?وَجَعَلَنَا ذُريتَهُ هُمْ الباَقِيْنَ?[الصافات: 77]. وقال لبني إسرائيل: ?وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوْسَى وَآلُ هَارُوْنَ?[البقرة: 248].
فالتمسوا الفضل من قريش حيث جعله اللّه، فبقية الحق منهم، فإن اللّه جل ثناؤه يقول: ?اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ?[الأنعام: 124]، فإن كان اللّه ذَهَبَ بنبينا وجعله خاتم النبيين، فإن فيكم أهل وذُرِيَّتَهُ معتصمين بكتاب اللّه.
وقد وعد اللّه المؤمنين والرسول النَّصر والنجاة، قال اللّه عز وجل: ?إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُوْمُ الأَشْهَادُ?[غافر: 51].
ثم قال: ?ثُمَّ نُنَجِّيْ رُسُلَنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا كَذَلِكَ حَقاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِيْنَ?[يونس:103].(1/98)


وقال: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِيْنَ أَجْرَمُوْا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ?[الروم: 47].
وقال: ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِيْنَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُوْرُوْنَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُوْنَ?[الصافات: 171 - 173].
وقال: ?لاَ تَجِدُ قَوْماً يؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ وَلَوْ كَانُوْا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كُتِبَ فِيْ قُلُوْبِهِمُ الإِيْمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوْحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوْا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللّه أِلاَ إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمْ الْمُفْلِحُوْنَ?[المجادلة: 22].
ثم قال: ?يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُوْنَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤِتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ?[المائدة: 54].
ثم قال: ?يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنْ تَنْصُرُوْا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ?[محمد: 7].
وقال: ?وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إَنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيْزٌ?[الحج: 40]. وقال: ?وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وُرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيْزٌ?[الحديد: 25].(1/99)


وقال: ?وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيْهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?[محمد: 4 - 5 ].
فوعد اللّه المؤمنين النَّصر والهدى على الجهاد، فقال: ?وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوْا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِيْنَ?[العنكبوت: 69]. وقال: ?وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ?[العنكبوت: 6].
وقال تعالى: ?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن: 11].
وقال: ?وَالَّذِيْنَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَفْرَحُوْنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ?[الرعد: 36].
وقال: ?فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوْا بِهَا بِكَافِرينَ?[الأنعام: 89].
وقال: ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُوْنَ?[الزخرف: 44].(1/100)

20 / 55
ع
En
A+
A-