ثم جعل اللّه جل ثناؤه - أفضل القبائل حين فضل بينها في النعم - لِبني إسرائيل - وَهم قبيلة واحدة وبنو أبٍ - فضلا على قبائل بني آدم في زمانهم الذي كانوا فيه، فقال: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِيْنَ?[الجاثية: 16]، وقال موسى عليه السلام لقومه: ?يَا قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكاً وَآتَاكُمْ مَالَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِيْنَ?[المائدة: 20]، فكان بنو إسرائيل وهم قبيلة واحدة وبنو أبٍ مفضلين على قبائل بني آدم في الزمن الذي كانوا فيه، بنعمة اللّه عليهم إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً، وأكرمُ بني إسرائيل أتقاهم، كما قال اللّه عز وجل.
وإنما فَسَّرت لك تأول الناس هذه الآية لتعلم أن اللّه جعل لذرية محمد صلى اللّه ولقومه الفضل به، حين بعث اللّه منها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنزل الكتاب عليه، وأكرمهم عند اللّه أتقاهم كما قال اللّه عز وجل. وقال لهم: ?كَانَ النَّاسُ أُمَةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيْمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيْهِ إِلاَّ الَّذِيْنَ أُوتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ?[البقرة: 213].(1/91)


فكان الناس في الخلق حين خلق اللّه السموات والأرض وما ذرأ فيهما أمة من خلقه، قال اللّه تبارك وتعالى: ?وَمَامِنْ دَابَّةٍ فِيْ الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِيْ الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إِلَى ربهِمْ يُحْشَرُوْنَ?[الأنعام: 38]، وقال اللّه تبارك وتعالى: ?وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِيْ عَلَى أَربعٍ يَخْلُقُ اللّه مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٍ?[النور: 45]، وكل شيء فيه روح - ينظر الناس إليه مما في البر - فإنما هو دابة أو طائر، فما تحرك ولم يطر فهو دابة، وليس أمة من الدواب تمشي على رجلين غير الناس، قال اللّه عز وجل: ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِيْ أَحْسَنِ تَقْوِيْمٍ?[التين: 4]، ثم قال: ?يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَكَ بِربكَ الكَريمِ الَّذِيْ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ?[الانفطار: 6 - 7]، فقوَّمه على رجلين، ثم قال: ?فِيْ أَيِّ صُوْرَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ?[الانفطار: 8].
وكان فيما بَيَّن اللّه لكم أنه مسخ أناساً فجعلهم في صور الناس فجعلهم قردة وخنازير، فتبارك اللّه رب العالمين.
وسائر الدواب تمشي - كما قال اللّه تبارك اسمه - على بطونها وعلى أربع وعلى أكثر من ذلك، يخلق اللّه ما يشاء، ما تعلمون وما لاتعلمون، وليس هذا بهذا ولا هذا بهذا، ولكنها أمم مختلفة وخلق يعرف بعضه بغير بعض، والدواب كلها كذلك، ليس الإبل بالبقر ولا الغنم بالحمير ولا البغال بالخيل، فهي أمم كما قال اللّه عز وجل، وغيرها من الأمم الدواب والسباع كذلك.(1/92)


فكان الناس في الخلق أمة من هذه الأمم فَضَّلهم اللّه على غيرهم من خلقه، وسخر لهم ما شاء من خلقه فقال: ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِيْ البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً?[الإسراء: 70]، فجعلهم اللّه يركبون ظهوراً مما خلق ويشربون من ألبانها ويأكلون لحمها، وقال: ?وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِيْ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيْ الأَرْضِ جَمِيْعاً مِنْهُ?[الجاثية: 13]، فهذه نعمه وفضله. جعل اللّه السماء سقفاً محفوظاً، وسخر لكم ما فيها، وجعل فيها منافع لكم والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر، وجعل الأرض فِرَاشاً، وجعل فيها منافع لكم وأنهارها وأشجارها وفجاجها وسبلها وأكنافها.(1/93)


اصطفاء الأنبياء وتفضيل ذرياتهم
ثم افترض عليكم عبادته وعَرَّفكم نعمته وبعث إليكم أنبيائه وأنزل عليكم كتابه، فيه أمره ونهيه، وما وعدكم عليه من الجَنَّةَ من طاعته، وما حَذَّركم عليه من النار في معصيته، فقال: ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيْيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ?[الأنفال: 42]، [وقال]: ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْا هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُوْنَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْمٍ?[التوبة: 115].
وكان مما بَيَّن اللّه لكم أن جعل الأنبياء بعضهم ذريةً لبعض، واصطفاهم بذلك على الناس وأكرمهم اختارهم واجتباهم إليه، فقال: ?إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىْ آدَمَ وَنُوْحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِيْنَ ذُريةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ?[آل عمران: 33 - 34]، ثم قال: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّيْنِ مَا وَصَّى بِهِ نُوْحاً وَالَّذِيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بَهَ إَبْرَاهِيْمَ وَمُوْسَى وَعِيْسَى أَنْ أَقِيْمُوْا الدِّيْنَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوْا فِيْهِ?[الشورى: 13].
شَرَعَ لنبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم ما شَرَعَ لهم، وأوصاكم بما أوصاهم، ونهاكم عن التَّفَرُّق كما نهاهم.
فبعث اللّه نوحاً وبينه وبين آدم من القرون ما شاء اللّه على دين آدم، واصطفاه كما اصطفى آدم، ثم مَنَّ اللَّه على نوح فنجاه وأهله إلا مَنْ خَالَفَه، ونجا من اتبعه من المؤمنين، وليس كلُّ من كان مع نوح في السفينة أهلَه، فقال: ?اِحْمِلْ فِيْهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَاآمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ?[هود: 40].(1/94)


ثم مَنَّ على نوح وأكرمه أن جعل ذُرِيَّتَهُ هم الباقين، وليس كل الباقين ذرية نوح، ثم قال: ?ذُريةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍ?[الإسراء: 3]، ثم قال: ?اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أَمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيْمٌ?[هود: 48]، فجعل أهل بقية الحق والبركات - التي يعتصم بها الناس بعد نوح - من ذريته، وقال اللّه تبارك وتعالى: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوْحاً وَإِبْرَاهِيْمَ وَجَعَلْنَا فِيْ ذُريتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيْرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُوْنَ?[الحديد: 26] وقال لإبراهيم عليه السلام: ?رَحْمَةُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إَنَهُ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ?[هود: 73]. فهذه البركة التي جعلها اللّه في ذريتهما.
وإنما أنبأكم اللّه جل ثناؤه بأنه جعل الكتابَ حيث جَعَلَ النُّبُوة، فقال لنبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم: ?قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيْداً بَيْنِيْ وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ?[الرعد: 43].
فليس كتابٌ إلا وله أهلٌ هم أعلم الناس به، ضل منهم من ضل واهتدى من اهتدى.
ثم بعث اللّه تبارك وتعالى إبراهيم صلى اللّه عليه، وبينه وبين نوح صلى اللّه عليه ماشاء اللّه من القرون، فجعل اللّه بقية الحق في ذريته وشيعته، فقال: ?وَلَقَدْ نَادَانَا نُوْحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيْبُوْنَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيْمِ?[الصافات:75 -76]، ثم قال: ?وَإِنَّ مِنْ شِيْعَتِهِ لإِبْرَاهِيْمُ?[الصافات:83]، ثم اصطفاه اللّه كما اصطفى نوحاً.(1/95)

19 / 55
ع
En
A+
A-