فلم يُخْرِج اللّه منهم الحقَ بَعْدَ أنْ جَعَله فيهم، ثم لم يُسمِّهم حين تفرقوا: (أمَّةً واحدة) فكذلك قال اللّه تعالى لهذه الأمة: ?وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةً يَهْدُوْنَ بَالحَقِ وَبِهِ يِعْدِلُوْنَ?[الأعراف: 181]، وقال:?وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ?[آل عمران:104]، فإن استَطَعْتَ أن تَلْتَمِسَ تلك الأمةَ من أمةِ محمَّد صلى اللّه عليه وآله إذا تَفَرَّقت فَافْعَل، فواللّه ما هي إلا التي استقامت على الأمر الذي تركها عليه نبيُّها صلى اللّه عليه وآله وسلم.
واعلم أنَّما أصاب الناسَ من الفتَن والاختلاف وشَبَّهت عليهم الأمور إلا من قِبَل ما أذكر لك، فأحسن النَّظر في كتابي هذا، واعلم أنك لن تستشفيَ بأوَّل قولي حتى تَبْلغ آخره إن شاء اللّه.
وذلك أنَّهم لم يروا لأهل بَيْت نبيِّهم صلى اللّه عليه فضلا عليهم - يَعْتَرفون لهم به - في قرَابَتِهم من النَّبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا علماً بالكتاب ينتهون إلى شيء من قولهم فيه، فلما جاز لهم إنكار فضلهم، جاز ذلك لبعضهم على بعض.
وَسُمِّيَ كلُّ من استقبل القبلة وقرأ القرآن - من مؤمن أو مُنافق، أو أعْرَابيّ أو مهَاجِر، أو أعجمي أو عربي - من أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وجاز لهم - فيما بينهم إذْ لم يروا لأهل بَيْت نبيهم فضلاً عليهم - أن يتأولَ كلُّ مَنْ قرأ القرآن برأيه، ثمَّ يقول هو ومن تابعه على رأيه: نحن أعلم الناس بالقرآن وأهداهم فيه. فخالفهم ضرباؤهم - من الناس في رأيهم وتأولهم - وأكفاؤهم في السنة. وقد قرأوا القرآن مثل قراءتهم، وأقروا من تصديق النبي صلى اللّه عليه وآله بمثل ما أقروا به، فمن هنالك اختلفوا ولا يرجع بعضهم إلى بعض، فانظر فيما أصف لك.(1/86)
إتباع الصفوة هو سبيل النجاة عند الاختلاف
فلعمري إنا لنعلم أن أعلم الناس أعلمهم بالقرآن، وأن أهدى الناس لَمَن عمل به الْمُتَّبِع لما فيه، ولقد قال اللّه جل ثناؤه: ?إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِيْ للَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ الصَالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيْراً?[الإسراء: 9].
ولكن انظر - إذا تفرق الناس وكلهم يُقِرُّ بالكتاب وبالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وبعضهم ينتحل الهدى دون بعض - هل في كتاب اللّه عز وجل تفضيل لبعض أهل هذه القبلة على بعض؟ [فـ]ينبغي أن تعرف أهل ذلك التفضيل في كتاب اللّه جل ثناؤه، وتُفَضِّلهم بما فضلهم اللّه عز وجل، وتكون بهم مقتدياً.
فإن أحببت أن تعلم ذلك إن شاء اللّه فانظر في القرآن هل بعث اللّه نبياً إلا سمى له أهلا؟ وهل أنزل كتاباً إلا وقد سمى لذلك الكتاب أهلا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم. ثم قَصَّ عليكم أعمال من نجا منهم وأعمال من هلك منهم، وأخبركم مَنْ كان أهلَ صفوته من الأمم الذين نجوا مع أنبيائهم، ومن كان بقية أهل الحق بعد الأنبياء عليهم السلام.
فإن وجدت في الكتاب أن أهل الأنبياء ومن اتبعهم نجوا مع أنبيائهم، وأن بقية الحق من الأمم كانوا ذرية الأنبياء؛ فاعلم أن هذه الأمة لن تنجوَ إلا بمثل ما نجا به مَنْ كان قبلهم، حين اختلفوا في دينهم، وقتل بعضهم بعضاً على دينهم.
ثم انظر هل تجد لنبيكم أهلاً وذُرِيَّة سماهم اللّه في كتابه كما سماهم للأنبياء قبله، وهل كان أهل الأنبياء وذرياتهم نجوا هم ومن اتبعهم، أو هلكوا ونجا غيرهم؟ فإن وجدتهم هم أهل النجاة مع الأنبياء، وهم بقية معادن الحق بعدهم، فاعلم أن هذه الأمة لا تنجو إلا بمثل ما نجا به الأمم من قبلهم.(1/87)
وإنا لنرجو من اللّه جل ثناؤه أن يجعل لنا من الفضل بقرابته صلى اللّه عليه وآله وسلم، على أهل الأنبياء كفضل ما جعل اللّه لنبينا صلى اللّه عليه وآله عليهم؛ لأن اللّه قال: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَاسِ تَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانِ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُوْنَ وَأَكْثَرُهُمْ الفَاسِقُوْنَ?[آل عمران: 110]، ولعلك إن شاء اللّه تعرف في آخر ما في هذا تفسير ما أجملت لك في أوله وتعرف بذلك من الكتاب ما يهدي ولا قوة إلا بالله.
فمن زعم أن أهل هذه القبلة كلهم أهل صفوة وحبوة وخيرة ليس بينهم تفاضل، فإنا لا نقول ذلك، لأنه ليس كل من اتبع الأنبياء سماهم اللّه أهل صفوة وحبوة وخيرة، وقد سمى اللّه جل ثناؤه أهل صفوة وحبوة وخيرة فقال: ?وَربكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ?[القصص: 68] وليس كل من خلق اللّه خيرة ولكن يختار منهم من يشاء، فقال: ?مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَىْ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ?[القصص: 68]، وقال: ?وَقُلِ الْحَمْدُلِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِةِ الَّذِيْنَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُوْنَ?[النمل: 59]، فليس كل العباد اصطفى اللّه، ولكن اللّه يصطفي منهم من يشاء وقال عز وجل: ?اللّهُ يَصْطَفِيْ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ?[الحج: 75]. وإنما فضلت نعم اللّه بين الناس عن غير حول أحد منهم ولا قوة، إلا مناً من اللّه ونعمة، وفضلا يختص به من يشاء.(1/88)
مكانة أهل البيت عليهم السلام
فكنا أهل البيت ممن اختصه اللّه بنعمته وفضله، حين بعث مِنَّا نبيه صلى اللّه عليه وآله وأنزل عليه كتابه، وقد عَرَفْتَ أن الكتاب يتأوله جهال من الناس يزعمون أنه ليس لأهل هذه القبلة فضل، يَفْضُل به على بعض، من ذلك قول اللّه عز وجل: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّه عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ?[الحجرات: 13]، فصدق اللّه وبَلَّغ رسوله، وفي هذه الآية حجة لآل محمد صلى اللّه عليه وآله وبيان فضلهم على الناس.
ما فضل نبينا نفسه ولكن اللّه فضله، وجعل لذريته وقومه الفضل به على الناس، كما جعل ذلك لمن كان قبله من الأنبياء، وجعل أكرم كلِّ قبيلة وشعوبٍ من الناس أتقاهم، كما قال اللّه جل ثناؤه.(1/89)
وقد فضل اللّه القبائل بعضها على بعض، فجعل التفاضل بين الأنبياء وسائر الناس فقال: ?وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّيْنَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوْراً?[الإسراء: 55]، وقال: ?تِلْكَ الرُسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ?[البقرة: 253]، وقال: ?وَلَلآْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيْلاً?[الإسراء: 21]، وقال: ?أَهُمْ يَقْسِمُوْنَ رَحْمَةَ ربكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيْشَتَهُمْ فِيْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سِخْرياً وَرَحْمَةُ ربكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُوْنَ?[الزخرف: 32]، وقال: ?وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ?[الروم: 22]، فإذا اختلف شيء من خلق اللّه تفاضل، فللرجل الفارسي على الرجل الزنجي فضل - وإن أسلما جميعاً - في نسبهما وألوانهما يعرفه الناس، وللسان العرب فضل على لسان العجم يعرفه الناس، لأنه لا يدخل في هذا الدين أحد من قبائل العجم إلا ترك لسان قومه وتكلم بلسان العرب.
هذا لتعرف إن شاء اللّه أن اللّه قد فضل القبائل بعضها على بعض في ألوانها وألسنتها، وتسخير اللّه بعضها لبعض.(1/90)