وحق اللّه في بِرِّ الوالدين [الإحسان إليهما، والرفق بهما] فلو علم اللّه شيئاً هو أقل من: ((أف)) لحرمه منهما فـ?لاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَريماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا ربيَانِيْ صَغِيْراً? [الإسراء:23- 24].
وحق اللّه في الأخ: أن تنصحه، وأن تبذل له مَعْرُوفَكَ إذا كان محتاجاً وكنت ذا مال، فقد عَظَّم اللّه شأن الأخ في اللّه عز وجل، فأخوك في اللّه هو شقيقك في دينك، ومُعِيْنُك في طاعة اللّه عز وجل.
وحق اللّه تعالى على العبد في مولاه الْمُنْعِم عليه أن يعلم أنه أنفق فيه ماله، وأخرجه من ذُلِّ العبودية، فهذا يجب حقه في النصيحة له، والتعظيم لمعرفة ما أتى من الخير.
وحق اللّه في تعظيم المُؤَذِّنِيْنَ وهو: أن يعلم العبدُ ما قاموا به وما دَعَوا إليه، فيدعوا لهم بلسانه، ويَوَدُّهم بقلبه، ويَوَقِّرُهم في نظره.
وحق اللّه في أئمة المؤمنين في صلاتهم: أن يَعْرِف [العبد] لهم حقهم بما تقلدوه وبما قاموا به ، وأن يدعو لهم بالإرشاد والهداية، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((تخيروا الأئمة فإنهم الوافدون بكم إلى اللّه عز وجل)).
وحق اللّه في الجليس: أن تلين له كَنَفَك، وأن تُقْبِل عليه في مجلسك، وأن لا تحرمه محاورتك، وأن تحدثه من منطقك، وأن تختصه بالنصح.
وحق اللّه في الجار: حفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته ومعونته، وأن لا تتبع له عورة، وأن لا تبحث له عن سوء، فإن عَلِمْتَ له أمراً يخافه فكن له حِصناً حصيناً، وستراً سَتِيْراً فإنه أمانة.
وحقوق اللّه كثيرة، وقد حَرَّم اللّه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فجانبوا كل أمر فيه رِيْبَة، ودعوا ما يريب إلى مالا يريب، والسلام.
[تمت بحمد اللّه رسالة الحقوق](1/81)
كتاب الصفوة
سند الكتاب
[قال الحافظ أبو عبد اللّه العلوي]:حدثنا أبو الطيب علي بن محمد بن مخلد الكوفي قال: حدثني إسماعيل بن يزيد العطار، قال: حدثنا حسين بن نصر بن مزاحم المِنْقِرِي، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحكم بن ظَهِير الفزاري، قال: حدثني أبي حماد بن يعلا الثمالي، عن أبي الزناد[موج بن علي الكوفي]، وأصحاب زيد بن علي، عن زيد بن علي عليه السلام في كتاب الصفوة.(1/82)
مقدمة في ذكر الاختلاف وبيان أسبابه
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى اللّه الذي خلقك ورزقك، وهو يميتك ويحييك، فهذه نعم اللّه التي عَمَّت الناس، فهي على كل عبد منهم، فأحقُّ ما نظر فيه المرء المسلم وتعاهد من نفسه أمر آخرته ودينه الذي خُلِقَ له، وليس كل من وجب حق اللّه عليه يهتم بذلك من أمر آخرته، وإن كان يسعى لدنياه بصيراً بما يصلحها به، ويصلحه منها، فإن اللّه جل ثناؤه قال لقوم يعلمون: ?يَعْلَمُوْنَ ظَاهِراً مِنْ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُوْنَ?[الروم: 7].
فنعوذ بالله العظيم أن يُغْفِلَنا عن أمر آخرتنا شغلٌ من أمر دنيانا، فإن شغلهما ليس بواحد، قال اللّه جل ثناؤه: ?مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُريدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوْماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةِ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوْراً?[الإسراء: 18 - 19].
وقد رأيتَ ما وقع الناس فيه من الاختلاف، تبرأوا [من بعضهم] وتأولوا القرآن برأيهم على أهوائهم،[و] اعتنقت كل فرقة منهم هوى، ثم تولوا عليه، وتأولوا القرآن على رأيهم ذلك ، بخلاف ما تأوله عليه غيرهم، ثم برئ بعضهم من بعض، وكلهم يزعم فيما يُزَيَّنُ له أن على هدى في رأيه وتأوله، وأن مَنْ خالفه على ضلالة أو كفر أو شرك، لابُدَّ لكل أهل هوى منهم أن يقولوا بعض ذلك.(1/83)
وكل أهل هوى من أهل هذه القبلة يزعمون أنهم أولى الناس بالنبي صلى اللّه عليه وآله، وأعلمهم بالكتاب الذي جاء به، وأنهم أحق الناس بكل آية ذكر اللّه فيها صَفْوَةً أو حَبْوَةً أو هدى لأمة محمد صلى اللّه عليه وآله، وكلهم يزعم أن من خالفهم - في رأيهم وتأويلهم - من أهل بيت نبيهم برؤا منه، وأن أهل بيت نبيهم صلى اللّه عليه وآله لن يهتدوا إلا بمتابعتهم إياهم.
وقد عرفت أن أهل تلك الأهواء يُعرَفون وإن لم نسمهم بأسمائهم التي يُسَمَّون بها، وإن لم أصف قولهم الذي يقولون به، فكيف يستقيم لرجل فَقُهَ في الدين أن يسمي هؤلاء كلهم مؤمنين، [و] أمة واحدة على هدى وصواب وهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضا؟
فإن قلت: هم أمة محمد صلى اللّه عليه وآله لأنهم كانوا مجتمعين في عهده، كما أمرهم اللّه عز وجل. قلنا: نعم، فلما تفرقوا كما تفرق من كان قبلهم وقد نهوا عن التفرق صاروا أمماً كما كان من قبلهم حين تفرقوا بعد أن كانوا أمة واحدة، قال اللّه تبارك وتعالى: ? وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللّه جَمِيْعاً وَلاَ تَفَرَّقُوْا وَاذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْن قُلُوْبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ? [آل عمران: 103]. وليس الإخوان في الدين بالذين يتبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، قال اللّه تبارك وتعالى: ?وَلاَ تَكُوْنُوْا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوْا وَاخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ?[آل عمران: 105].(1/84)
وقد بيَّن اللّه لكم أمر من كان قبلَ أمةِ محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، بني إسرائيل كانوا أمَّة في عهد موسى صلى اللّه عليه، فَلمَّا تَفَرَّقوا سمَّاهم اللّه أمَماً، فقال: ?وَقَطَّعْنَاهُمْ فِيْ الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَالِحُوْنَ وَمِنْهُمْ دُوْنَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ?[الأعراف: 168]. بلوا لأنَّهم تفرقوا بعد موسى، يزعُمُون كُلُّهم أنهم مُتَّبِعون لموسى مصدقون بالتَّوراة ويَستقبلون قِبْلَة واحدة، قال اللّه تبارك وتعالى: ?لَيْسُوْا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةً قَائِمَةً?[آل عمران: 113] فَسمَّاهم اللّه أهلَ الكتاب، ثم سمى أهلَ الحقِّ منهم أمةً قائمة، ثم وصَفَها، فقال: ?يَتْلُوْنَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُوْنَ يُؤْمِنُوْنَ بَاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُوْنَ فِيْ الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِيْنَ?[آل عمران: 113 - 114].
فكُل فرقة من أهل هذه القِبْلة نصبوا أدياناً يَتَأوَّلون عليها ويتبرأون ممن خالفهم، فهم أمَّةٌ على هُدًى كانوا أم على ضَلالة، قال اللّه جَلَّ جلاله: ?إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للَّهِ حَنِيْفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ?[النحل:120]. فسمَّاه اللّه حين كان على دين لم يكن عليه أحَدٌ غيره: أمَّةً. قال اللّه جل ثناؤه لقوم اتَّبَعوا ضلالة آبائهم: ?إَنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُوْنَ?[الزخرف: 23].
وكذلك تفرَّقت هذه الأمَّةُ بَعْدَ نبيها صلى اللّه عليه وآله وسلم، أمَماً، كما تَفرقت بنو إسرائيل بعد مُوسى أمماً، وقد قال اللّه جل ثناؤه: ?وَمِنْ قَوْمِ مُوْسَى أُمَّةٌ يَهْدُوْنَ بِالحَقِ وَبِهِ يَعْدِلُوْنَ?[الأعراف: 159].(1/85)