عباد اللّه إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خُذْلانَكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا عناداً لله، فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكلُّ مالٍ للَّه أنفقوه، وكل جمعٍ جمعوه، وكل سيف شَحَذُوه وكل عدل تركوه، وكل جور رَكِبوه، وكل ذمة للَّه تعالى أخفروها، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نَبَذوه، وكل حكم للَّه تعالى عطلوه، وكل عهد للَّه نقضوه فأنتم المعينون لهم على ذ لك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد اللّه إن الأحبار والرُّهبان من كل أمة مسؤلون عما استحفظوا عليه، فأعِدُّوا جواباً للَّه عز وجل على سؤاله.
اللهم إني أسألك بنبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم تثبيتاً منك على الحق الذي ندعوا إليه وأنت الشهيد فيما بيننا، الفاصل بالحق فيما فيه اختلفنا، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة.
والسلام على من أجاب الحق، وكان عوناً من أعوانه الدالين عليه.
[تمت رسالة الإمام زيد إلى العلماء بحمد اللّه ومَنِّه](1/76)


رسالة الحقوق
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ أبو القاسم عبد العزيز [بن إسحاق البغدادي]: حدثني محمد بن بشير الرَّقِّي، عن أبي خالد الواسطي، قال: كتب أبو الحسين زيد بن على عليهما السلام هذه الرسالة.
قال مالك بن عطية: قلت لأبي خالد لمن كتبها؟
قال: سَأَلَهُ أبو هاشم الرُّمَّاني فقال: جعلت فداك أخبرني بحقوق اللّه علينا.
قال أبو خالد: فكتب لنا هذه الرسالة، وقال لنا: تدارسوها وتعلموها وعلموها من سألكم، فإن العالم له أجرُ من تعَلَّم منه وعَمِلَ، والعالم له نور يضيء له يوم القيامة بما عَلَّم من الخير، فتعلموها وعلموها، فإنه من عَلَّم وعمل كان ربانياً في ملكوت السماوات.
قال أبو خالد رحمه اللّه تعالى: فكتبناها من زيد بن علي عليهما السلام، وقرأها عليه أبو هاشم الرماني، وكان يَدْرُسها ويقول: لو رعاها مؤمن كانت كافية له.
قال زيد بن علي عليهما السلام:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جعلكم اللّه من المهتدين إليه، الدَّالين عليه، وعَصَمَكم من فِتْنَةِ الدنيا، وأعاذكم من شَرِّ المنقلب، والحمد لله على ماهدانا وأولانا، وصلى اللّه على جميع رسله وأنبيائه وأوليائه، وخص محمداً بصلاة منه ورحمة وبركة وسَلَّم عليه وعلى أهل بيته الطاهرين تسليما، أما بعد:
فإنكما سألتماني عن حُقُوقِ اللّه عز وجل، وكيف يسلم العبد بتأديتها وكمالها؟ فاعلموا أن حقوق اللّه عز وجل مُحِيْطَةٌ بعباده في كل حَرَكة، وسبيل، وحال، ومنزل، وجارحة، وآلة. وحقوق اللّه تعالى بعضها أكبر من بعض.
فأكبر حقوق اللّه تعالى ما أوجب على عباده من حقه، وجعله أصلا لحقوقه، ومِنْهُ تَفَرَّعت الحقوق. ثم ما أوجبه من قَرْنِ العبد إلى قَدَمِه على اختلاف الجوارح، فجعل للقلب حقاً، وللسان حقاً، وللبَصَر حقاً، وللسَّمع حقاً، ولليدين حقاً، وللقدمين حقاً، وللبطن حقاً، وللفَرْج حقاً، فبهذه الجوارح تكون الأفعال.(1/77)


وجعل تعالى للأفعال حقوقاً؛ فجعل للصلاة حقاً، وللزكاة حقاً، وللصوم حقاً، وللحج حقاً، وللجهاد حقاً، وجعل لذي الرَّحم حقاً.
ثم إن حقوق اللّه تتشعب منها الحقوق، فاحفظوا حقوقه.
فأما حقه الأكبر فأن يعبده العارف الْمُحْتَجُّ عليه فلا يشرك به شيئاً، فإذا فعل ذلك بالإخلاص واليقين فقد ضَمِن له أن يكفِيَه، وأن يجيره من النار.
ولله عز وجل حقوق في النفوس: أن تستعمل في طاعة اللّه بالجوارح، فمن ذلك: اللسان، والسمع، والبصر، قال اللّه عز وجل في كتابه:?إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً?[الإسراء:36].
فاللسان: يُنَزِّهُهُ عن الزُّور، والكذب، والخَنَاء، ويقيمه بالحق لا يخاف في اللّه لومة لائم، ويحمله آداب اللّه، لموضع الحاجة إليه، وذلك أن اللسان إذا ألِفَ الزُّور والكذب والخناء اعْوَجَّ عن الحق، فذهبت المنفعة منه وبقي ضرره، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه وسلامه: ((يُعْرَف ذو اللبِّ بلسانه)).
وقال صلوات عليه: ((المرء مخبوء تحت لسانه)). وقال صلوات اللّه عليه وسلامه: ((لسان ابن آدم قَلَمُ المَلَك، وريقه مداده، يا ابن آدم فَقَدِّم خيراً تغنم أو اصمت عن السوء تسلم)).
وحق اللّه على المؤمن في سمعه: أن يحفظه من اللَّغو، والاستماع إلى جميع ما يكرهه اللّه تعالى، فإن السَّمع طريق القلب، يجب أن تَحْذَر ما يَسْلُك إلى قلبك.
وحق اللّه في البصر: غَضُّه عن المحظورات ما صَغُرَ وما كَبُرَ، ولا تمده إلى مامَتَّع اللّه به الْمُتْرَفين، واتْرُك انتقال البَصَرِ في مالا خير فيه، ولكن ليجعل المؤمن نظره عِبَراً، فإن النَّظر باب الاعتبار.
وحق اللّه في اليَدَيْن: قبضهما عن المُحَرَّمات في التَّناول، واللمس، والبطش، والأَثَرَةِ، والخِصام، ولكن يبسطهما في الخيرات، والذب عن الدين والجهاد في سبيل اللّه.(1/78)


وحق اللّه تعالى في الرِّجْلَين: لا يسعى بهما إلى مكروه، فكل رِجْل سعت إلى ما يكره اللّه تعالى فهي من أرجل إبليس لعنه اللّه تعالى.
وحق اللّه في البَطْن: أن لا يجعله وعاء للحرام، فإنه مسؤول عنه، وقد كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وسلامه يقول: ((نِعْمَ الغريم الجوف، أي شيء تقذفه إليه قَبِلَه منك))، وقال صلوات اللّه عليه وسلامه في البطن: ((ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنَّفَس))، وقال صلوات اللّه عليه وسلامه: ((إذا طعمتم فصلوا واصف الطعام، فأَخَفَّ الطعام، وأطيبه وأمرأه وأثراه الحلال))، وقال صلوات اللّه عليه: ((ويجب أن يقتصد في أكله وشربه، فإن كثرة الأكل والشرب مقساة للقلب)).
وحق اللّه في الطعام:أن يُسَمِّي إذا ابتدأ، وأن يحمده إذا انتهى، والشبع مَلِياً مَكْسَلَةٌ عن العبادة، مَضَرَّة للجسد، ولا خير في العبد حينئذ.
وحق اللّه على عبده في فَرْجِه: حفظه وتحصينه. وبابه المفتوح إليه هو البصر، فلا تمدوا أبصاركم إلى ما لا يَحِلُّ لكم، ولاتُتْبِعوا نَظْرةَ الفجأةِ نَظْرَةَ العَمْدِ فتهلكوا، وكفى بذلك معصية وخطيئة، وأخيفوا نفوسكم بالوَعيْد واقْرَعُوها، فَمَنْ قَرَع نفسه وأخافها بالوعيد فقد أبلغ في موعظتها وتحصينها، وتأديبها بأدب اللّه عز وجل.
ثم حقوق اللّه تعالى في الصلاة: أن يعلم المصلي أنها وافدة إلى اللّه عز وجل، فليصل صلاة مُوَدِّع، يعلم أنه إذا أفسد صلاته لم يجد خَلَفاً منها ولا عوضاً، ومن أفسد صلاته فهو لسائر الفرائض أفسد، وإذا قام العبد إلى الصلاة فليقم مقام الخائف، المِسْكِين، المُنكَسر، المتواضع، خاشعاً بالسُّكُون والوَقَار، واحضار المشاهدة بيقين بالله، فإذا كملت فقد فاز بها، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال اللّه تبارك وتعالى.(1/79)


وحق اللّه في الصيام: اجتناب الرَّفثِ وفَضُولِ الكلام، وحِفْظِ البَصَر، وتحريم الطعام، والشراب، والصوم جُنَّة من النار، ومن يَعْطَش لله جل ثناؤه أرواه من الرحيق المختوم في دار السلام.
وحق اللّه تعالى في الأموال: على قَدْرِها، فما كان من زكاة فإخراجها عند وجوبها، وتسليمها إلى أهلها، فإن أخرجتموها إلى غير أهلها فهي مَضْمُونَة لأهلها في جميع المال، وهي إذا لم تُخْرَج إلى أهلها مَخْبَثَةٌ لجميع المال، فيجب إخراجها بيقين وإخلاص، فتلك من أفضل الذَّخائر عند اللّه عز وجل وهي مقبولة.
وإذا توجه العبد إلى اللّه بقَصْدٍ ونِيَّة أقبل اللّه تعالى إليه بالخير، وإذا اهتدى زاده اللّه هداية في هدايته إليه، وَبَصَّرَه وعَرَّفه طريق نجاته، فإنما يريد اللّه تعالى بنا اليُسْر وهو الهادي، وهو المُسْعِف بالقوة على صعوبة الحق وثِقَلِهِ على النفوس.
ومن علامات القاصد إلى اللّه إقبال قَلْبِه وجوارحه، وإرشاد النفس واستعبادها بالتذلل والخشوع والخشية له، السَّالِمة من الرِّياء، والتخلص من السمعة بالصلاح .
وحق اللّه على عبده في أئمة الهدى أن ينصح لهم في السِّر والعلانية، وأن يجاهد معهم، وأن يبذل نفسه وماله دُوْنَهم، إن كان قادراً على ذلك من أهل السلامة.
وحق اللّه على عبده في معرفة حقوق العلماء الدَّالين عليه في الأمر والنهي: أن يسألهم إذا جَهِل، وأن يَعْرِفَ لهم حقهم في تعليم الخير.
وحق اللّه على العالمِ في علمه: أن لا يمنعه من الطالبين، وأن يغيث به الملهوفين.
وحق اللّه على المالِك في مِلْكِ يده: أن لا يكلفه من العمل فوق طاقته، وأن يُلِينَ له جانبه، فإنما هو أخوه مَلَّكَه اللّه تعالى إِيَّاه، وله حقه وكسوته ومطعمه ومشربه، و[ما] لا غنى به له عنه.(1/80)

16 / 55
ع
En
A+
A-