فيعمد أهل البدع والباطل إلى كل رجل - من أهل قبلتنا - يعمل بالصفة التي سمى اللّه تبارك وتعالى من أعمال المنافقين فيزكونه من اسم النفاق ويدخلونه في اسم المؤمنين ?الَّذِيْنَ يُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيْعُوْنَ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ?[التوبة: 71]، فخالفوا قول اللّه تعالى في المنافقين والمؤمنين.
وقال اللّه تبارك وتعالى: ?إِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ فِيْ الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيْراً?[النساء: 145]، فلو كان المنافقون مشركين لم يكونوا تحت أرجل المشركين في جهنم.
وقال اللّه تبارك وتعالى: ?احْشُرُوْا الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا وَأَزْوَاجَهَمْ وَمَا كَانُوْا يَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللّهِ فَاهْدُوْهُمْ إِلَى صِرَاطٍ الَجَحِيْمِ?[الصافات: 22 - 23]، وأزواجهم هم: المشركين الذين كانوا قبلهم. فلو كان المنافقون مشركين لم يحشروا مع المؤمنين الذين ?يَسْعَى نُوْرُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَبِأَيِمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيْمُ?[الحديد: 12] فألحقهم اللّه تبارك وتعالى بالذين كفروا، فسيقوا إلى جهنم زمراً.
وسل أهل البدع والباطل عن رجل قال: أنا أشهد أن ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم حق، قد حرم اللّه لحم الخنزير وهو محرم على المؤمنين ولكن أشتهيه، فأمر بخنزير فذبح وأكل لحمه، حتى أكل خنازير، [فلما كان] آخر ذبيحة منها ذهب ليأكل منها، فدخل عظم من عظامه في حلقه فقتله في مجلسه ذلك.(1/61)


فسلهم عن هذا الرجل أهو كافر أو مؤمن؟ فإن قالوا: مؤمن من المؤمنين. تبين حمقهم وضلالهم، وإن قالوا: كافراً. فدعهم وباطلهم الذي ينتحلون. وطعام الخنزير ليس هو من طعام الأبرار ولكنه من طعام الكفار الفجار الذين كفروا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وسلهم عن رجل يقطع الطريق على المسلمين فجعل يَلْقَى كل يوم رجلاً من المسلمين فيقتله ويأخذ ماله، حتى قَتَلَ مائة نفس، فكان مع آخر من قتله لحم في سفرته، فجلس القاتل فأكل منه، فدخل في حلقه عظم من ذلك اللحم فقتله في مجلسه ذلك.
فسلهم أمؤمن هو أم كافر؟ فإن قالوا لك: كافر. اضمحل باطلهم عنهم، وإن قالوا: مؤمن. فقل: لو أنكم حضرتموه حين مات أكنتم قائمين على قبره ومصلين عليه؟ فإن قالوا: لا. فقل لهم: شككتم في دينكم والتبس عليكم أمركم، وارتبتم في رأيكم. وإن قالوا لك: نصلي عليه. فقل لهم: أهو من المؤمنين الذين كان رسول اللّه أمر بالاستغفار لهم؟ فإن قالوا: نعم. فقل: كذبتم على ربكم وعلى نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، إن هذا حرب لله تبارك وتعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يكن اللّه ليأمر نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستغفر ويصلي على حربه.
وقد كانت الخمر حلالا للمسلمين، فلما حرمها اللّه تبارك وتعالى وجعلها مع الميسر والأنصاب والأزلام، جعلها رجساً من عمل الشيطان، فشكا المسلمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقالوا: كيف بأبائنا وأمهاتنا وإخواننا الذين قُتِلُوا وماتوا وهذه الرجس في بطونهم؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: ?لَيْسَ عَلَى الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيْمَا طَعِمُوَا إِذَا مَااتَّقَوا وَآمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوْا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوْا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ?[المائدة: 93]، فلم يبرأ الذين هلكوا من الأمم إلا من كان على هذه الصفة.(1/62)


فهذا ميثاق اللّه على عباده واثقهم به، وبهذا يدخل اللّه تبارك وتعالى عباده الجنة، ولا يدخلهم بالفسق، ولا بالعمل الذي لعن اللّه تبارك وتعالى مَنْ عمله وغضب عليه.
وأهل البدع يزعمون: أن الإيمان قول وإقرار بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وليس الإيمان العمل، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين قدم المدينة صلى إما ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، لم يتم فيها إستقبال البيت الحرام، فلما صرف اللّه القبلة إلى البيت الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم من صلاتهم قبل ذلك، فأنزل اللّه على بينه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ?وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيْعَ إِيْمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ?[البقرة: 143] يعني بهذه الآية: الصلاة، فسمى صلاتهم: إيماناً.(1/63)


وقال اللّه تبارك وتعالى: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُوْنَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُوْنَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُوْنَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤْلاَءِ تَقْتُلُوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُوْنَ فَريقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُوْنَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوْكُمْ أُسَارَى تُفَادُوْهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُوْنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُوْنَ بِبِعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّوْنَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ أَوْلَئِكَ الَّذِيْنَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العَذَابُ وَلاَهُمْ يُنْصَرُوْنَ?[البقرة: 84 - 86] ، فأخذ اللّه تبارك وتعالى الميثاق على بني إسرائيل في التوراة: أن لا تقتلوا أنفسكم. إنما يعني بأنفسهم أهل ملتهم، وألا يأتيهم أسير من بني إسرائيل أو عبد أو وليدة إلا شروه إن بِيْعَ، فأعتقوه.(1/64)


فكان بين الأوس والخزرج في الجاهلية حرب شديد وقتل شهير، وكانت بنو قريظة من اليهود، والنضير من اليهود، حلفاء الأوس والخزرج؛ بنو قريظة خلفاء الأوس، والنضير حلفاء للخزرج، فكانت الأوس والخزرج إذا سارت بينهما القتال، جاء حلفاء الفريق كلاهما من اليهود، فقاتلوا مع حلفائهم خشية أن يستضعف حلفاؤهم. وبنوا الأوس والخزرج مشركون ليسوا على دين اليهود، فيقتل اليهود بعضهم بعضاً ويخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، فإذا تخارجوا بينهم، وسكن القتال أتي بالعبد والوليدة من بني إسرائيل ليباع، أرسل الفريقان - الذين اقتتلوا قَبْلُ - بعضَهُم إلى بعض: اجمعوا فداء هذا الأسير حتى نعتقه، فإذا قيل لهم: لم تعتقونه؟ قالوا: إن اللّه تبارك وتعالى أمرنا بذلك. فيقال لهم: أليس؟ قد حرم اللّه تبارك وتعالى دماء بعضكم على بعض في التوراة، كما أمركم بشراء هذا الأسير؟ قالوا: بلى وكنا نخاف أن يستضعف حلفاؤنا.
فأقروا بأنه حق من اللّه تبارك وتعالى، فلم ينفعهم الإقرار حين لم يعملوا شيئاً، وجعلهم مؤمنون بإشترائهم الأسراى، وجعلهم كفاراً بسفك دمائهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، وهم يهود كفار بالله وبرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فجعلوا مؤمنون بالآية التي عملوا بها من اشتراء الأسراى، وغضب اللّه تعالى عليهم بسفكهم الدماء، حتى ردوا إلى أشد العذاب، قال اللّه تبارك وتعالى: ?وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ?[غافر: 46].
[تم بحمد اللّه كتاب الإيمان](1/65)

13 / 55
ع
En
A+
A-